صفحة جديدة 1
اجتماع الحكمين
ولما انقضى الأجل وحل رمضان في السنة السابعة والثلاثين أرسل علي أبا موسى الأشعري
في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي، ومعهم عبد الله بن عباس يصلي بهم ويلي
أمورهم، وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام عليهم شرحبيل بن
الصمة؛ فاجتمع الفريقان في دومة الجندل وكان معهم عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن
أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والمغيرة بن شعبة،
وسعد بن أبي وقاص.
ولمّا اجتمع الحكمان قام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه وذكر الحدث الذي حل
بالإسلام والخلاف الواقع بأهله، ثم قال: يا عمرو! هلمّ إلى أمر يجمع الله فيه
الأُلْفة ويلم به الشعث ويُصلِح ذات البين.
فَجَزّاه عمرو خيراً، وقال: إن للكلام أولاً وآخراً، ومتى تنازعنا الكلام خُطباً
لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام نتصادر عليه في كتاب يصير إليه
أمرنا..
قال: فاكتب..
فدعا عمرو بصحيفة وكاتب وقال له: اكتب، فإنك شاهد علينا، ولا تكتب شيئاً يأمرك به
أحدنا حتى تستأمر فيه الآخر، فإذا أمرك فاكتب وإذا نهاك فانته حتى يجتمع رأينا..
اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضى عليه أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص تقاضياً على أنهما
يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى
ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون..
ثم قال عمرو: ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بكتاب الله
وسُنة رسوله حتى قبضه الله إليه، وقد أدى الحق الذي عليه..
قال أبو موسى: اكتب، ثم قال في عمر مثل ذلك..
قال عمرو اكتب: (وأن عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضا منهم وأنه كان مؤمناً).
قال أبو موسى: ليس هذا مما قعدنا له.
قال عمرو: لا بد والله من أن يكون مؤمناً أو كافراً.
قال أبو موسى: اكتب.
قال عمرو: فظالماً قُتِل عثمان أو مظلوماً؟
قال أبو موسى: بل قُتِل مظلوماً.
قال عمرو: أفليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟ قال أبو موسى: نعم.
قال عمرو: فهل تعلم لعثمان ولياً أَوْلَى من معاوية؟
قال أبو موسى: لا.
قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان أو يعجز؟
قال أبو موسى: بلى.
قال عمرو للكاتب: اكتب.. وأمره أبو موسى فكتب.
ثم قال أبو موسى: هذا أمر قد حدث في الإسلام، وإنما اجتمعنا لله فهلمّ إلى أمر
يُصلِح الله به أمة محمد.
قال عمرو: ما هو؟
قال أبو موسى: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبداً، وأن أهل الشام لا
يحبون علياً أبداً، فهل نخلعهما جميعاً ونستخلف عبد الله بن عمر؟
قال عمرو: أيفعل ذلك عبد الله بن عمر؟
قال: نعم، إذا حمله الناس على ذلك فعل.
فقال له عمرو: هل لك في سعد؟
قال: لا، فعدّد له جماعة، وكلهم يأباه أبو موسى ولا يرضى إلا عبد الله بن عمر..
فأخذ عمرو الصحيفة بعد أن ختما عليها جميعاً، ولم يتفق الحكمان على مَنْ يولياه أمر
هذه الأمة لأن أبا موسى رضي بخلع علي ومعاوية ولم يختر للخلافة إلا عبد الله بن عمر
وعمرو بن العاص لم يرضه فافترقا على ذلك، ولم يحصل بينهما غير ما كتب في الصحيفة..
كما حكاه المسعودي في رواية له..
فأمّا أبو موسى فإنه استحيا أن يقابل علياً بعد أن أقرّ على خلعه من الخلافة فلحق
بمكة.
وأمّا عمرو بن العاص فرأى أن الأمر صار شورى بين المسلمين حسبما سُطِّر في الصحيفة
ورضي به كلاهما، فتوجه هو وأهل الشام إلى معاوية فبايعوه بالخلافة لأنهم رأوه أهلاً
لأن يقوم بأعبائها.
أمّا أمير المؤمنين علي فإنه رأى أن الحكمين لم يفيا بما تعهّدا به من الحكم
بالقرآن بل اتّبع كل منهما هواه، فصمم على حرب معاوية مرة أخرى..
وخطب أصحابه خطبة قال فيها: (الحمد لله، وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان
الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أمّا بعد.. فإن المعصية
تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري
ونحلتكم رأيي لو كان لقصير أمر ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال
أخو هوازن
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
|
|
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
|
ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما،
وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله،
فحكما بغير حُجة بيّنة ولا سُنة ماضية، واختلفا في حُكمهما وكلاهما لم يرشد فبرئ
الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين،
استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام، وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين)..
الخوارج
ولكن حال بينه وبين ذلك أن خرج عليه جماعة زعموا أن التحكيم نقص في الدين- وهم
الذين كانوا اعتزلوه أولاً-..
فأرسل إليهم عبد الله بن عباس، فلمّا صار إليهم رَحّبوا به وأكرموه، فرأى منهم
جباهاً قريحة لطول السجود، وأيدياً كثفنات الإبل عليهم قُمُص مُرْخَصَة وهم
مشمرون..
فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟
فقال: قد جئتكم من عند صِهر رسول الله وابن عمه وأَعْلَمِنا بربه وسُنة نبيّه.
قالوا: إنّا أتينا عظيماً حين حكّمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض
لمجاهدة عدونا رجعنا..
فجادلوه وجادلهم، ومما احتجّوا به أن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين وقت كتابة
الصحيفة..
قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه، وقد محا رسول الله اسمه من النبوة، وقد أخذ
على الحكمين ألا يجورا وأن يحورا؛ فعلي أَوْلَى من معاوية وغيره..
قالوا: إن معاوية يدّعي مثل دعوى علي..
قال: فأيهما رأيتموه أَوْلَى فولّوه..
قالوا: صدقت يا ابن عباس..
قال ابن عباس: متى جار الحكمان فلا طاعة لهما، ولا قبول لقولهما..
فرجع معه ألفان منهم، وبقي الباقون فصلّى بهم صلاتهم ابن الكواء وقال: متى كانت حرب
فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، وبقوا على ذلك يومين، ثم أجمعوا على البيعة لعبد الله
بن وهب السُّلمي الراسبي ومضوا إلى النهروان..