صفحة جديدة 1
رفعْ المصاحف والدعوة إلى الحكومة.
ورأى ذلك معاوية وعمرو بن العاص، فقال عمرو: ندعوهم لكتاب الله أن يكون حَكَمَاً
بيننا وبينهم، فأمر معاوية برفْع المصاحف على الرماح ومناديا ًيقول: هذا كتاب الله
عز وجل بيننا وبينكم، مَنْ لثغور الشام بعد أهل الشام؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهل
العراق؟
فلمّا رآها أصحاب علي وقد أشرفوا على الانتصار اختلفوا؛ ففِرقة تقول: نُجيب إلى
كتاب الله عز وجل.. ورئيسهم الأشعث بن قيس الكندي، وفِرقة تأبى إلا القتال حتى يتم
الأمر لأنهم ظنوا رفْع المصاحف خديعة.. ورئيسهم الأشتر..
وكان هذا رأى أمير المؤمنين ولكنه اتّبع رأي مخالفيه لكثرتهم..
فأرسل الأشعث إلى معاوية يسأله: عمّا يريد؟
فتوجه إليه وقال: لأي شيء رفعتم المصاحف؟
فقال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله في كتابه، تبعثون رجلاً ترضونه ونبعث رجلاً
نرضاه ونأخذ عليهما العهد أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا
عليه..
فعاد إلى علي بالخبر فقال الناس: رضينا وقَبِلنا..
واختار أهل الشام عمرو بن العاص واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري..
فحضر عمرو ليكتب الكتاب بين الفريقين بذلك..
فكتبوا:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي؛ فقال عمرو: ليس لنا بأمير فمحاه علي وقال:
(هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي على أهل الكوفة
ومَنْ معهم وقاضى معاوية على أهل الشام ومَنْ معهم أنّا ننزل على حُكم الله وكتابه،
وألا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا
ونميت ما أمات، فما وجد الحَكَمان في كتاب الله- وهما أبو موسى عبد الله بن قيس
وعمرو بن العاص- عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسُّنة العادلة الجامعة غير
المُفَرِّقة، وأخذ الحَكَمان من علي ومعاوية ومن الجُندين من العهود والمواثيق
أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة، لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى
عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا
يردانها في حرب ولا فُرقة حتى يقضيا، وأَجّلا القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن
يؤخِّرا ذلك أخّراه، وأن مكان قضيتهما مكان عدل من أهل الكوفة وأهل الشام)..
وشهد على جماعة من جيش علي ومثلهم من جيش معاوية وتاريخ الكتاب يوم الأربعاء
لثلاثة عشرة بقيت من شهر صفر سنة سبع وثلاثين..
واتفقوا على أن يجتمع الحكمان بدومة الجندل أو بأذرِح في رمضان ثم انفضّ الناس من
هذا المحل المشئوم الذي اجتمع فيه فئتان عظيمتان من المؤمنين يقاتل بعضهم بعضاً،
ولكن الذي يخفف البلية أن الفريقين كان يريدان الله بعملهما لأن الجميع كانوا
يريدون إنفاذ حكمه حسبما اجتهدوا ورأوا..
ورجع أمير المؤمنين من صِفين إلى الكوفة وجيشه في شقاق واختلاف؛ فريق راض بالتحكيم
ظان أنه حاسم للخلاف وجامع لكلمة المسلمين، وفريق كاره له قائل: كيف تُحَكِّم في
دين الله الرجال، وهؤلاء اعتزلوا إخوانهم يقولون: أدهنتم في دين الله، وأولئك
يقولون: فارقتم إمامنا..
فلمّا وصل علي الكوفة اعتزله جماعة ممَّنْ رأوا التحكيم ضلالاً وأتوا حروراء،
فنزلوا بها في اثني عشر ألفاً وأمّروا على القتال شبث بن ربعي، وعلى الصلاة عبد
الله بن الكواء اليشكرى، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعث إليهم على عبد الله بن عباس وقال له: لا تُرَاجعهم
حتى آتيك، فلم يصبر عن مكالمتهم، وقال: ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما
بين الزوجين
﴿وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾[النساء:35]
فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقالوا: هذا لا يكون بالرأي والقياس، فإن ذلك قد جعله الله حُكْماً للعباد وهذا
أمضاه كما أمضى حُكْم الزاني والسارق، فليس للعباد أن ينظروا فيه.
فقال ابن عباس: قال الله تعالى:
﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾[المائدة:95]..
فقالوا: والأخرى كذلك، ليس أمر الزوجين والصيد كدماء المسلمين..
وقدحوا في عدالة عمرو بن العاص..
وقالوا: قد حكّمتم في أمر الله الرجال وقد أمضى الله حُكمه في معاوية وأصحابه أن
يُقْتَلوا أو يرجعوا.
وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت
براءة.
فخرج إليهم علي ونزل في فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في
رأيهم فصلى عنده ركعتين وولاه أصبهان والري..
ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عباس فقال: مَنْ زعيمكم؟
قالوا: ابن الكواء
قال: فما هذا الخروج؟
قالوا: لحكومتكم يوم صفين.
قال: قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فإن
حَكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف وإن أبيا فنحن من حكمهما براء.
قالوا: فَخَبِّرْنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟
فقال: إنّا لسنا حكمنا الرجال وإنما حكّمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور
بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فلِمَ جعلتم الأجل بينكم؟
قال: ليعلم الجاهل ويثبت العالم ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة..
فرجعوا إلى رأيه..
فقال: ادخلوا مصركم رحمكم الله..
فدخلوا عن آخرهم.