صفحة جديدة 3
ثم نادى في الناس: أن كُفوا، وكان من رأي الجميع في تلك الفتنة أن لا يبدءوا بقتال
يطلبون بذلك الحُجة وألا يقتلوا مُدْبراً، ولا يُجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا
سَلَباً، ولا يرزؤوا بالبصرة سلاحاً ولا ثياباً ولا متاعاً..
فجاء كعب بن سوار- قاضي البصرة- إلى أم المؤمنين وقال لها: أدركي الناس قد أبى
القوم إلا القتال، لعل الله أن يُصلح بكِ، فركبت بعد أن
ألبسوا هودجها الأدراع ثم سارت ووقفت بحيث تسمع ضوضاء القتال..
أمّا الزبير فإنه ترك القوم يقتتلون ورجع، فتبعه رجل يُعرف بابن جرموز وقتله غدراً
وهو يصلي بوادي السباع...
ولم يقاتل جيش البصرة إلا قليلاً ثم هُزِم، فمروا في هزيمتهم على أم المؤمنين راكبة
هودجها فأطافوا بِجَمَلِها وقالت هي لكعب بن سوار: تقدم إلى هؤلاء القوم بالمصحف
وادعهم إلى كتاب الله..
فرماه بعض السبئية بسهم قتله، ورموا هودج أم المؤمنين بالنَّبْل، فجعلت تنادي
البقية البقية يا بني الله، أذكروا الله والحساب، ولا يأبون إلا إقداماً..
فحرضت جيش البصرة على القتال حينما رأت أهل الكوفة يريدون هودجها..
وهنا كانت حميتهم العظمى لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هنا محيص عن
القتال لأنه كالسيل إذا أتى لا يُرَدّ..
وأمسك بخطام الجمل كثير من أرباب الشجاعة من قريش وغيرهم، فقُتِل دونه نحو السبعين
من قريش وعدد عظيم من غيرهم..
وممَّنْ قَتِل دونه: محمد بن طلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد..
وأشتد أهل الكوفة على الجمل لأنهم رأوا أن البصريين لا ينهزمون ما دام واقفاً،
فرماه كثير منهم وكل مَنْ رماه قُتِل، فلمّا رأى علي شدة الأمر وكثرة القتلى من
المسلمين قال: اعقروا الجمل، فإنه إن عُقِر تفرقوا عنه..
والذي دعاه إلى هذا الأمر الحذر على أم المؤمنين أن تصاب من كثرة النبل الذي
سُدِّد لهودجها، فقطعوا ساق الجمل ثم اجتمع القعقاع بن عمرو وزُفَر بن الحارث على
قطع بُطان الجمل، وحُمِل الهودج وإنه مثل القنفذ من كثرة السهام، وعند ذلك انهزم
أهل البصرة..
فنادى منادي علي: ألا تتبعوا مُدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تدخلوا دُوراً..
وأمر بحَمْل الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليه قُبّة وقال:
أنظر هل وصل إليها شيء من جراحة، فوجدها بحمد الله سليمة لم تُصَب بشيء..
ثم جاءها علي فقال: كيف أنتِ يا أُمّة؟
قالت: بخير يغفر الله لك.
قال: ولكِ.
وظهرت آثار الكَدَرِ علي أمير المؤمنين من هذا الحادث الجلل الذي لم يكن فيه مأرب،
وكذلك على السيدة أم المؤمنين؛ فإنها كانت تود الصلح، ولم يجرِ ما جرى إلا رغماً عن
الجميع..
وكان علي يتمثل بعد انتهاء الموقعة بقول الشاعر:
إليك أشكو عُجَرِي وبُجَري ومعشراً غشوا علي بصري
قتلت منهم مضري بمضري شفيت نفسي وقتلت معشري
ثم أمر أن تنزل أم المؤمنين في دار خلف بن عبد الله الخزاعي على صفية بنت الحارث بن
أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار..
وأذِن في دفن القتلى ثم أطاف عليهم، فلمّا رأى كعب بن سوار قال: زعمتم أنه خرج معهم
السفهاء وهذا قد ترون.
ولمّا أتى على طلحة قال: لهفي عليك أبا محمد، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله
لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، وأنت والله كما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذ ما هو استغنى ويبعده الفقر
وصلى على القتلى من أهل البصرة وأهل الكوفة، وبعث ما كان في العسكر من الأسلاب إلى
مسجد البصرة وقال: مَنْ عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً في الخزائن عليه سِمَة
السلطان..
ثم دخل علي البصرة فبايعه أهلها، وولّى عليها عبد الله بن عباس، وجعل على الخَراج
زياد بن أبي سفيان..
ثم بلغه أن رجلاً قال: جُزِيت عنّا أُمّنا عقوقنا، وقال الآخر: يا أمي توبي، فأمر
بكل منهما أن يُجْلَد مائة جَلْدة..
ثم جهز علي أم المؤمنين، وسَيّرها إلى المدينة واختار معها أربعين امرأة من نساء
البصرة المعروفات، وسيّر معها أخاها محمد بن أبي بكر..
فلمّا كان اليوم الذي ارتحلت فيه اجتمع الناس إليها فقالت: يا بني لا يعتب بعضنا
على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين
أحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار..
فقال علي: صدقت والله ما بيني وبينها إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا
والآخرة..
وخرجت يوم السبت غرة رجب من السنة السادسة والثلاثين فتوجهت إلى مكة فحجت ثم رجعت
إلى المدينة والحمد لله.
ورجع علي الكوفة التي جعلها مقر خلافته، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية
بالشام يدعوه إلى الدخول فيما دخل الناس، ويُعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على
بيعته..
فامتنع معاوية حتى تُقْتَل قَتَلة عثمان حيث كانوا، ثم يختار المسلمون لأنفسهم
إماماً؛ لأنه رأى أن بيعة علي لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد في الآفاق
ولا تتم البيعة إلا باتفاقهم، ولا تلزم بعقد مَنْ تولاها من غيرهم أو من القليل
منهم، فجعل رضي الله عنه القصاص من قَتَلة عثمان أَوّل واجب على المسلمين، والذي
يطالب به وليّه، ثم اختيار الإمام أمر ثان..
ولم يكن معاوية يتهم علياً رضي الله عنه بالممالأة على عثمان حاشا لله، بل كان يظن
فيه الهوادة عن نُصرة عثمان من قاتليه..
ولقد كان إذا وَجّه مَلامته إنما كان يُوجهها عليه في سكوته فقط.. كما ذكر ذلك
العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه..
أمّا علي رضي الله عنه فكان يرى أن بيعته قد تمت ولزمت مَنْ تأخر عنها باجتماع مَنْ
اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وموطن الصحابة، وأرجأ الأمر في
القصاص من قَتلة عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذٍ مما يجب أن
يفعل، وبذلك عَدّ مَنْ لم يبايعه خارجاً عليه يحل له قتاله..
فخرج فعسكر بالنُّخَيْلَة، وقَدِم عليه ابن عباس من البصرة، واستخلف عليها زياداً،
ثم قَدّم طلائعه وعبأ جيوشه قاصداً محاربة أهل الشام لإجبارهم على الدخول فيما دخل
فيه الناس..