صفحة جديدة 3
وَهَكَذَا سَمَّى الله تَعَالَى «القَذَفَةَ» كَاذِبِينَ، فَقَالَ: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾
[النور: 13] فَالقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَف مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ
الأَمْرِ؛ لأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الإِخْبَارُ بِهِ، وَتَكَلَّفَ
مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ
لَهُمْ به؛ كَمَا رَوَىَ شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مُرَّةَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: «أَيُّ
أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي «كِتَابِ اللهِ»
مَا لَمْ أَعْلَمْ؟!».
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا (محمود) مُحَمَّدُ
بْنُ يَزِيدَ، عَنْ العَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ:
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾
[عبس: 31]، فَقَالَ: «أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ
أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لَا أَعْلَمُ» -مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضاً: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ:
(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾
[عبس: 31]. فَقَالَ: هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ).
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: (كنَّا عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ، فَقَرَأَ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾
[عبس: 31]. فَقَالَ: مَا الأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ،
فَمَا عَلَيْكَ أَلَّا تَدْرِيَهُ).
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِنَّمَا
أَرَادَا اسْتِكْشَافَ ماهية «الأَبِّ» وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتاً مِنَ الأَرْضِ
ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً(30)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾
[عبس: 27-31].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرِ، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عن أيوب، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: (أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ
فِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا) إِسْنَاده صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أيُّوبَ،
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ﴾؟
[السجدة: 5]. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا: ﴿يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾
[المعارج: 4] فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَنِي، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ فِي «كِتَابِهِ»، وَاللهُ
أَعْلَمُ بِهِمَا). فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ، قال: حَدَّثَنَا
ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ،
قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فَسَأَلَهُ عَنْ
آيَةٍ مِنَ «القُرْآنِ»، فَقَالَ: (أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِماً لَما
قُمْتَ عَنِّي، أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي).
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ،
أنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ «القُرْآنِ» قَالَ: (إِنَّا
لَا نَقُولُ فِي «القُرْآنِ» شَيْئاً).
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ،
(أنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِي المَعْلُومِ مِنَ «القُرْآنِ»).
وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ
المُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ «القُرْآنِ»، فَقَالَ: (لَا تَسْأَلنِي عَنْ
«القُرْآنِ»، وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ)
-يَعْنِي عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ شَؤْذَبٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: (كُنَّا
نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ عَنِ الحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَ أَعْلَمَ
النَّاسِ، فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ «القُرْآنِ» سَكَتَ،
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرِ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهُ بْنُ عُمَرَ،
قَالَ: (لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ «المَدِينَةِ» وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ
القَوْلَ فِي «التَّفْسِيرِ»؛ مِنْهُمْ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَالقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ اللَّيْثِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: (مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ
«كِتَابِ اللهِ» قَطُّ).
قَالَ: وعن أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهِشَامٌ الدسْتَوَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ قال: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ مِنَ
«القُرْآنِ»، فَقَالَ: (ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَ أُنْزِلَ من
«القُرْآنُ»، فَاتَّقِ اللهَ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُبَيْدِ
اللهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (إِذَا حَدَّثْتَ عَنِ
اللهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ).
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: (كَانَ
أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ «التَّفْسِيرَ» وَيَهَابُونَهُ).
وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: قَالَ
الشُّعْبِيُّ: (وَاللهِ مَا مِنْ «آيَةِ» إِلَّا وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا،
وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنْ اللهِ).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: أنبأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: (اتَّقُوا «التَّفْسِيرَ»،
فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ اللهِ).
فَهَذِهِ الآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ،
مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنِ الكَلَامِ فِي «التَّفْسِيرِ» بِمَا لَا
عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً
وَشَرْعاً فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَلَا
مُنَافَاةَ؛ لأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ، وَسَكَتُوا عَمَّا
جَهِلُوهُ.
وَهَذَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ
عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ القَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ
مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾
[آل عمران: 187]، وَلِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ المَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ: «مَنْ
سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ؛ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ
نَارٍ».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُؤَمّلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ
تَعْرِفُهُ العَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ
بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ
إِلَّا اللهُ تعالى ذِكْره). وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ