صفحة جديدة 2
فَصْلُ
فِي تَفْسِيرِ «القُرْآنِ» بِـ «أَقْوَالِ التَّابِعِينَ»
إِذَا لَمْ تَجِدِ «التَّفْسِيرَ» فِي «القُرْآنِ» وَلَا فِي «السُّنَّةِ» وَلَا
وَجَدْتَهُ عَنْ «الصَّحَابَةِ»؛ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الأَئِمَّةِ فِي
ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ «التَّابِعِينِ»:
كَـ: مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ آيَةٌ فِي «التَّفْسِيرِ»، كَمَا قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: (عَرَضْتُ «المُصْحَفَ» عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، مِنْ
فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أُوْقِفُهُ عِنْد كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ
عَنْهَا).
وَبِهِ إِلَى «التِّرْمِذِيِّ» قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ
البَصْرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ مجاهد: (مَا فِي «القُرْآنِ» آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئاً).
وَبِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: (لَوْ كُنْتُ قَرَأْتُ
«قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ» لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
كَثِيرٍ مِنَ «القُرْآنِ» مِمَّا سَأَلْتُ).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ
غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ المَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
(رَأَيْتُ مُجَاهِداً سَأَلَ ابن عباس رضي الله عنهما عَنْ «تَفْسِيرِ القُرْآنِ»،
وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ، فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُكْتُبْ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ
التَّفْسِيرِ كُلِّهِ).
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: (إِذَا جَاءَكَ «التَّفْسِيرُ»
عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ).
وَكَـ: سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالحَسَن البَصَرِيِّ، وَمَسْرُوق بْنِ الأَجْدَعِ، وَسَعِيدِ
بْنِ المُسَيَّبِ، وَأَبِي العَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ،
وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ «التَّابِعِينِ» وَتَابِعِيهِمْ،
وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي «الآيَةِ» فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي
الأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عَنْدَهُ اخْتِلَافاً، فَيَحْكِيهَا
أَقْوَالاً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنِ الشَّيْءِ
بلازمه أو نظيره، ومنهم مَنْ يَنُص على الشيء بِعَيْنِهِ، وَالكُلُّ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنِ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ،
وَاللهُ الهَادِي.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: (أَقْوَالُ «التَّابِعِينَ» فِي
الفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي «التَّفْسِيرِ»)؟
يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمِ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ؛
وَهَذَا صَحِيحٌ..
أَمَّا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً،
فَإِنَّ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا
عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى «لُغَةِ القُرْآنِ» أَوِ
«السُّنَّةِ»، أَوْ عُمُومِ «لُغَةِ العَرَبِ»، أَوْ «أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ» فِي
ذَلِكَ.
تَفْسِيرِ «القُرْآنِ» بِالرَّأْي
فَأَمَّا تَفْسِيرُ «القُرْآنِ» بِمُجَرَّدِ «الرَّأْيِ»؛ فَحَرَامٌ؛ [لِمَا
رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي: «مُسْنَدِهِ»؛ قَالَ:] حَدَّثَنَا مُؤَمّلٌ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ
فِي «القُرْآنِ» بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى
الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وَبِهِ إِلَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قال:
حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ
القُطَعِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجُوْنِيُّ، عَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ
فَأَصَابَ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ».
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ «القُرْآنُ»
بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ
العِلْمِ، أَنَّهُمْ فَسَّرُوا «القُرْآنَ»؛ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ
قَالُوا فِي «القُرْآنِ»، أَوْ فَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ مِنْ قِبَلِ
أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: «أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا
مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»، فَمَنْ قَالَ فِي «القُرْآنِ»
بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ
بِهِ. فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ المَعْنَى فِي نَفْسِ الأَمْرِ لَكَانَ قَدْ
أَخْطَأَ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ
النَّاسِ عن جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي
نَفْسِ الأَمْرِ، لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْماً مِمَّنْ أَخْطَأَ، وَاللهُ
أَعْلَمُ.