صفحة جديدة 3
فَالأَوَّلُونَ رَاعُوا المَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا
تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ «القُرْآنِ» مِنَ الدِّلَالَةِ وَالبَيَانِ، وَالآخَرُونَ
رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
العَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا يَصْلُحُ لِلمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَسِيَاقِ
الكَلَامِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيراً مَا يَغْلطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ
المَعْنَى فِي «اللُّغَةِ»، كَمَا يَغْلطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا
أَنَّ الأَوَّلِينَ كَثِيراً مَا يَغْلطُونَ فِي صِحَّةِ المَعْنَى على الَّذِي
فَسَّرُوا بِهِ «القُرْآنَ»، كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخَرُونَ، وَإِنْ كَانَ
نَظَرُ الأَوَّلِينَ إِلَى المَعْنَى أَسْبَقَ، وَنَظَرُ الآخَرِينَ إِلَى
اللَّفْظِ أَسْبَق.
وَالأَوَّلُونَ صِنْفَانِ: تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ «القُرْآنِ» مَا دَلَّ
عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ، وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ
وَلَمْ يُرَدْ بِهِ؛ وَفِي كِلَا الأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ
أَوْ إِثْبَاتَهُ مِنَ المَعْنَى بَاطِلاً؛ فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ
وَالمَدْلُولِ، وَقَدْ يَكُونُ حَقّاً فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِيهِ فِي الدَّلِيلِ
لَا فِي المَدْلُولِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ القُرْآنِ»، فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضاً
فِي «تَفْسِيرِ الحَدِيثِ».
فَالَّذِينَ أَخْطَئوا فِي الدَّلِيلِ وَالمَدْلُولِ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ «أَهْلِ
البِدَعِ» اعْتَقَدُوا مَذْهَباً يُخَالِفُ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الأُمَّةُ
الوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، كَسَلَفِ الأُمَّةِ
وَأَئِمَّتِهَا، وَعَمَدُوا إِلَى «القُرْآنِ» فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ،
تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دِلَالَةَ فِيهَا،
وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ
الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ «الخَوَارِجِ» وَ«الرَّوَافِضِ»، وَ«الجَهْمِيَّةِ»، وَ«المُعْتَزِلَةِ»،
وَ«القَدَرِيَّةِ» وَ«المُرْجَئَةِ»، وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذَا كَـ «المُعْتَزِلَةِ» مَثَلاً فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَاماً
وَجِدَالاً، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلُ:
«تَفَسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الأَصَمِّ»، شَيْخِ إِبْرَاهِيمِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ. وَمِثْلُ
كِتَابِ «أَبِي عَلِيٍّ الجُبَّائِي»، وَ«التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ» لِلْقَاضِي
عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الهَمَذَانِيِّ، وَ«الجَامِعِ لِعِلْمِ القُرْآنِ»
لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ، وَ«الكَشَّافِ» لأَبِي القَاسِمِ
الزَّمَخْشَرِيِّ.
فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمُ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ «المُعْتَزِلَةِ»، وَ«أُصُولُ
المُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ»، يُسَمُّونَهَا هُمُ: «التَّوْحِيدَ»، وَ«العَدْلَ»، وَ«المَنْزِلَةَ
بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ»، وَ«إِنْفَاذَ الوَعِيدِ»، وَ«الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنْ المُنْكَرِ».
وَ«تَوْحِيدُهُمْ» هُوَ: تَوْحِيدُ الجَهْمِيَّةِ الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ
الصِّفَاتِ، وَ[غَيْرُ] ذَلِكَ..
قَالُوا: إِنَّ اللهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ «القُرْآنَ» مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ
تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَ العَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ، وَلَا
قُدْرَةٌ، ولَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ، وَلَا
مَشِيئَةٌ، وَلَا صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَأَمَّا «عَدْلُهُمْ» فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ
الكَائِنَاتِ، وَلَا خَلْقَهَا كُلِّهَا، وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا،
بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا الله كلها، لَا
خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا. وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعاً، وَمَا
سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ.
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوا «الشِّيعَةِ»؛ كَـ: «المُفِيدِ»، وَ«أَبِي
جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ»، وَأَمْثَالِهِمَا.
وَلأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا «تَفْسِيرٌ» عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، لَكِنْ يَضُمُّ
إِلَى ذَلِكَ قَوْلَ «الإِمَامِيَّةِ» الاثْنَى عَشَرِيَّةِ، فَإِنَّ
«المُعْتَزِلَةَ» لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَلَا مَنْ يُنْكِرُ
«خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ»، وَ«عُمَرَ»، وَ«عُثْمَانَ»، وَ«عَلِيٍّ».
وَمِنْ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ مَعَ الخَوَارِجِ: «إِنْفَاذُ الوَعِيدِ فِي
الآخِرَةِ»، وَأَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الكَبَائِرِ شَفَاعَةً، وَلَا
يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَداً مِنَ النَّارِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنَ «المُرْجِئَةِ» وَ«الكَرَّامِيَةِ»،
وَ«الكُلَّابِيَّةِ»، وَأَتْبَاعِهِمْ. فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاؤُوا أُخْرَى،
حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَي نَقِيضٍ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غيْرِ هَذَا
المَوْضِعِ.