HTML Editor - Full Version
شرح كتاب القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته الحسنى للشيخ محمد بن صالح العثيمين - من القاعدة الرابعة ظاهر النصوص مايتبادر منها إلى الذهن من المعاني إلى الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل.
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني،
وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق. وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.فلفظ (القرية)، مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً ).
ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: (إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَة).
وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ) ؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس.
ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فغير المعنى به.إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله – عز وجل – وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم. وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" أهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة" أهـ. نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية ص87-89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن القاسم.
وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.
الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.
القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو: التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه:
الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً.
فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أنداداً فقال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وكلامه – تعالى – كله حق يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض.
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض!.
ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات، أم خاصاً فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله – تعالى – خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله – عز وجل.
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم ؛ لقوله – تعالى - : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ). ولقوله – سبحانه -: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
فالصارف لكلام الله – تعالى – ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم. وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله – تعالى – ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.
وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟!
مثال ذلك: قوله – تعالى – لإبليس (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي). فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل – وأنى له ذلك – وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها.
الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:
هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلاماً أفصح وأبين من كلام الله – تعالى؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تظن أن الله – سبحانه وتعالى – أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:
هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحق صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً، وأبين من رسول الله صلى الله عليه؟ فسيقول لا.
فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله – تعالى – لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟
وماذا يضيرك إذا أثبت الله – تعالى – ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟
أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ).
أوليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل المراد يكون – على تقدير جواز صرفها – غير ما صرفتها إليه.