HTML Editor - Full Version
وقد دلّت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنّهي عن مسألة المخلوق في غير موضع كقوله تعالى {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “إذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله” ومنه قول الخليل {فابتغوا عند الله الرّزق} ولم يقل فابتغوا الرّزق عند الله لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر كأنّه قال لا تبتغوا الرّزق إلا عند الله وقد قال تعالى {واسألوا الله من فضله} والانسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره وكلا الأمرين شُرع له أن يكون دعاؤه لله فله أن يسأل الله وإليه يشتكى كما قال يعقوب عليه السلام {إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله}
والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل و الصفح الجميل و الصبر الجميل.
وقد قيل: إنّ الهجر الجميل هو هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا معاتبة والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق ولهذا قُرىء على أحمد بن حنبل فى مرضه أنّ طاوسا كان يكره أنين المريض ويقول إنّه شكوى فما أنّ أحمد حتى مات.
وأمّا الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل فإن يعقوب قال {فصبر جميل} وقال {انما اشكو بثي وحزنى الى الله} وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ فى الفجر بسورة يونس و يوسف و النّحل فمر بهذه الآية فى قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف ومن دعاء موسى {اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك} وفى الدعاء الذي دعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا {اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على النّاس أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي اللّهم إلى من تكلني إلى بعيد يتجهّمني أم إلى عدوّ ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي غير أنّ عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل عليّ غضبك لك العتبى حتى ترضى فلا حول ولا قوة إلا بك} وفى بعض الروايات ولا حول ولا قوة الا بك.
وكلما طمع العبد فى فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه فكما أنّ طمعه فى المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه كما قيل استغن عمن شئت تكن نظيره وافضل على من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره فكذلك طمع العبد فى ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه وإمّا على أهله وأصدقائه وإمّا على أمواله وذخائره وإمّا على ساداته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت قال تعالى {وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت وسبّح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}.
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه او أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وان كان فى الظّاهر أميرا لهم مدبّرا لهم متصرّفا بهم فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظّواهر فالرجل إذا تعلّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو فى الظّاهر سيدها لانه زوجها وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها وأنّه لا يعتاض عنها بغيرها إنّها حينئذ تحكم فيه بحكم السيّد القاهر الظالم في عبده المقهور الذى لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن فإنّ من استعبد بدنه واسترقّ لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال فى الخلاص وأمّا إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيّما لغير الله هذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التى يترتب عليها الثّواب والعقاب لأنّ المسلم لو أسره كافر او استرقّه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات ومن استعبد بحق إذا أدّى حق الله وحق مواليه له أجران ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالايمان لم يضره ذلك وأما من استعبد قلبه صار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان فى الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أنّ الغنى غنى النفس قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض وإنّما الغنى غنى النّفس وهذا لعمري اذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة فأمّا من استعبد قلبه صورة محرمة امرأة اوصبيّ فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلّهم ثوابا فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلّقا بها مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشرّ والفساد مالا يحصيه إلاّ رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلّق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشدّ ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة **** ومتى افاقة من به سكران.
وقيل قالوا:
جننت بمن تهوى فقلت لهم * العشق اعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه * وانما يصرع المجنون فى الحين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإنّ القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شىء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه او خوفا من مكروه فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح او بالخوف من الضرر قال تعالى في حق يوسف {كذلك لنصرف عنه السّوء والفحشاء إنّه من عبادنا المُخلصين} فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصّورة والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل ان يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى فى قلبه انقهر له هواه بلا علاج قال تعالى {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فإنّ الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله وحصول هذا المحبوب اكبر من مندفع المكروه فان ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها واما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.
والقلب خُلِق يحب الحق ويريده ويطلبه فلما عرضت له إرادة الشرّ طلب دفع ذلك فإنّه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ولهذا قال تعالى {قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها} وقال تعالى {قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وقال {قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} وقال تعالى {ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس وبيّن أنّ ترك الفواحش من زكاة النفوس وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان فى الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو فى الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه ويعينوه فهو فى الظاهر رئيس مطاع وفى الحقيقة عبد مطيع لهم والتحقيق ان كلاهما فيه عبودية للآخر وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله واذا كان تعاونهما على العلو فى الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة او قطع الطريق فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقّه يستعبده الآخر وهكذا ايضا طالب المال فان ذلك يستعبده ويسترقّه