صفحة جديدة 18
باب في أحكام الذكاة
لما كان من شرط حل الحيوان
البري أن يكون مذكى الذكاة الشرعية، وأن ما لم تجر عليه تلك الذكاة يكون ميتة
حراما؛ كان بحث الذكاة ومعرفة ما يلزم لها مهما جدا.
وقد عرفها الفقهاء رحمهم الله
بأنها: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع
حلقومه ومريئه أو عقر الممتنع منه، سميت بذلك أخذا من المعنى اللغوي، إذ الذكاة في
اللغة إتمام الشيء؛ لأن ذبح الحيوان معناه إتمام زهوقه، قال تعالى:
﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله:
﴿إِلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي: أدركتموه وفيه حياة،
فأتممتم زهوقه، ثم استعمل ذلك في الذبح، سواء كان بعد إصابة سابقة، أو ابتداء.
وحكم الذكاة أنها لازمة، لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بدونها؛ لأن غير المذكى يكون
ميتة، وقد أجمع أهل العلم على أن الميتة حرام إلا لمضطر، وقال تعالى:
﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾
إلا السمك والجراد وكل ما لا يعيش إلا في الماء، فيحل بدون ذكاة؛ لحل ميتته، لحديث
ابن عمر يرفعه:
«أحل
لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان: الحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال»
رواه أحمد وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم في البحر:
«هو
الطهور ماؤه الحل ميتته»
ويشترط للذكاة أربعة شروط
الشرط الأول: أهلية المذكي، بأن يكون عاقلا، ذا دين سماوي، من المسلمين أو أهل
الكتاب، فلا يباح ما ذكاه مجنون أو سكران أو طفل لم يميز، لأنه لا يصح من هؤلاء قصد
التذكية، لعدم العقلية فيهم، ولا يحل ما ذكاه كافر وثني أو مجوسي أو مرتد أو قبوري
ممن ينادون الموتى ويلوذون بالأضرحة ويطلبون من أصحابها المدد.. لأن هذا شرك أكبر.
وأما الكافر الكتابي، وهو
اليهودي أو النصراني؛ فتحل ذبيحته، لقوله تعالى:
﴿وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ أي: ذبائح أهل الكتاب
من اليهود والنصارى حل لكم أيها المسلمون، وهذا بإجماع المسلمين؛ قال الإمام
البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: طعامهم ذبائحهم ومفهوم الآية
الكريمة أن الكافر غير الكتابي لا تحل ذبيحته، وهذا بالإجماع..
والحكمة في إباحة ذبيحة الكافر
الكتابي دون غيره من الكفار: أن أهل الكتاب يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، وتحريم
الميتات؛ لما جاءت به أنبياؤهم، بخلاف بقية الكفار، فإنهم يذبحون للأصنام ويستحلون
الميتات.
الشرط الثاني: توفر الآلة: فتباح الذكاة بكل محدد. ينهر الدم بحده، سواء كان من
الحديد أو الحجر أو غير ذلك، ما عدا السن والظفر؛ فلا يحل الذبح بهما؛ لقوله:
«ما
أنهر الدم، فكل، ليس السن والظفر» متفق عليه.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام: إما لنجاسة بعضها، أو لتنجيسها على
مؤمني الجن، وتمام الحديث:
«وسأحدثكم
عن ذلك: أما السن؛ فعظم» أي: ذلك عظم، فلا يحل
الذبح به، وقال:
«وأما
الظفر، فمدى الحبشة» أي: فسكين الحبشة، فلا يحل الذبح.
الشرط الثالث: قطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، وقطع المريء، وهو مجرى الطعام
والشراب، وأحد الودجين، وهما الوريدان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتقطع المريء والحلقوم والودجان، والأقوى أن قطع
ثلاثة من الأربعة يبيح، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن، فإن قطع الودجين أبلغ من
قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم.
والسنة نحر إبل، بأن يطعنها
بمحدد في لبتها، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وذبح غيرها في حلقه.
والحكمة في تخصيص الذكاة في
المحل المذكور، وفي قطع هذه الأشياء خاصة، لأجل خروج الدم السيال؛ لأن هذا المحل
مجمع العروق، ولأن ذلك أسرع في زهوق الروح، فيكون أطيب للحم، وأخف على الحيوان، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا ذبحتم ذبيحة؛ فأحسنوا الذبحة»
وما عجز عن ذبحه في المحل
المذكورة لعدم التمكن منه؛ كالصيد والنعم المتوحشة والواقعة في بئر ونحوها، تكون
ذكاته بجرحه في أي موضع من بدنه، ويكفي ذلك في ذكاته؛ لحديث رافع قال:
«ند
بعير، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ند
عليكم؛ فاصنعوا به هكذا» متفق عليه، وروي ذلك عن علي
وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.
وما أصيب من الحيوانات
كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إذا أدركت وفيها حياة
مستقرة، فذكيت؛ حلت، لقوله تعالى:
﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله:
﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي: إلا ما أدركتم وفيه حياة، فذكيتموه؛ فليس بمحرم.
والمنخنقة: هي التي التف على عنقها
حبل ونحوه فخنقها.
والموقوذة: هي التي ضربت بشيء ثقيل.
والمتردية: هي التي تسقط من شيء مرتفع. والنطيحة: هي التي نطحها حيوان آخر
برأسه. وما أكل السبع، أي: افترسه الذئب ونحوه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله في الذكاة المجزية في هذه الأنواع: متى ذبح، فخرج الدم الأحمر الذي يخرج
من المذكى في العادة، ليس هو دم الميتة؛ فإنه يحل أكله، ولو مع عدم تحركه بيد أو
رجل أو طرف عين أو مصع ذنب ونحو فلك في الأصح... انتهى..
الشرط الرابع: أن يقول الذابح عند حركة يده بالذبح: بسم الله؛ لقوله تعالى:
﴿وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾
قال الإمام ابن القيم: ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان
عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل به؛ لابس الشيطان الذابح والمذبوح، فأثر خبثا في
الحيوان، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح سمى، فدلت الآية على أن الذبيحة لا تحل
إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما... انتهى.
ويسن مع التسمية التكبير.
وللذكاة آداب فيكره أن يذبح
بآلة كالة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«وليحد
أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته».
ويكره أن يحدها والحيوان يبصره؛
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
«أمر
أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم» رواه أحمد.
ويكره أن يوجه الحيوان إلى غير
القبلة.
ويكره أن يكسر عنقه أو يسلخه
قبل أن يبرد.
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة
يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم مضجعة على جانبها الأيسر. والله أعلم.