صفحة جديدة 5
باب في أنكحة الكفار
المراد بالكفار أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين والمراد ما يقرون عليه من
أنكحتهم لو أسلموا أو ترافعوا إلينا حال كفرهم.
فنكاح الكفار حكمه حكم نكاح
المسلمين في الصحة ووقوع الطلاق والظهار. والإيلاء ووجوب النفقة والقسم.
ويحرم عليهم من النساء ما يحرم على المسلمين، فقد جاء في القرآن الكريم إضافة
المرأة إلى الكافر في قوله تعالى:
﴿وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ و﴿امْرَأَةَ
فِرْعَوْنَ﴾ فأضاف المرأة إلى الكافر، والإضافة تقتضي زوجية صحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: الصواب أن أنكحتهم المحرمة في الإسلام حرام مطلقا، إذا لم يسلموا؛ عوقبوا
عليها، وإن أسلموا؛ عفي لهم عنها؛ لعدم اعتقادهم تحريمها، وأما الصحة والفساد؛
فالصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فإن أريد بالصحة إباحة التصرف؛ فإنما يباح
لهم بشرط الإسلام، وإن أريد نفوذه وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق
ثلاثا ووقوع الطلاق فيه وثبوت الإحصان به؛ فصحيح انتهى.
ومن أحكام أنكحة الكفار أنهم
يقرون على فاسدها بشرطين:
الشرط الأول: إذا اعتقدوا صحتها في شرعهم، وما لا يعتقدون حله؛ لا يقرون عليه؛
لأنه ليس من دينهم.
الشرط الثاني: أن لا يترافعوا إلينا، فإن ترافعوا؛ لم نقرهم عليه؛ لقوله تعالى:
﴿وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾
فإذا اعتقدوا صحة نكاحهم في
شرعهم، ولم يترافعوا إلينا؛ لم نتعرض لهم؛ بدليل «أن
النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يعترض عليهم في أنكحتهم» مع علمه أنهم يستبيحون محارمهم، وأسلم خلق كثير في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم، فأقرهم على أنكحتهم، ولم يكشف عن كيفيتها.
وإن أتونا قبل عقد نكاحهم؛
عقدناه على حكم ديننا؛ بإيجاب وقبول وولي وشاهدي عدل منا؛ قال تعالى:
﴿وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾
أما إن أتونا بعد عقد النكاح
فيما بينهم، فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره
* وكذلك إذا أسلم الزوجان على
نكاح؛ فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره وتوفر شروطه فيما سبق، لكننا ننظر فيه وقت
الترافع أو وقت إسلامهم، فإن كانت الزوجة تباح في هذا الوقت لعدم الموانع الشرعية،
أقرا على نكاحهما، لأن ابتداء النكاح حينئذ لا مانع منه؛ فلا مانع من استدامته، وإن
كانت الزوجة في هذا الوقت الذي ترافعا أو أسلما فيه لا يباح ابتداء العقد له عليها؛
فرق بينهما، لأن منع ابتداء العقد يمنع من استدامته، وإن كان المهر الذي سمي لها في
حال الكفر صحيحا؛ أخذته، لأنه وجب بالعقد، ولا مانع من استيفائها له، وإن كان فاسدا
- كالخمر والخنزير -: فإن كانت قبضته؛ فقد استقر، وليس لها غيره، لأنها قبضته بحكم
الشرك، فبرئت ذمة من هو عليه منه، ولأن في التعرض له مشقة وتنفير عن الإسلام، فيعفى
عنه كما عفي عن غيره من الأعمال الكفرية، وإن لم تكن قد قبضت المهر الفاسد؛ فإنه
يفرض لها مهر المثل، وإن كانت قد قبضت بعض المهر الفاسد ولم تقبض بقيته؛ فإنه يجب
لها قسط الباقي من مهر المثل، وإن لم يسم لها مهر أصلا؛ فإنه يفرض لها مهر المثل؛
لخلو النكاح من تسمية المهر.
* وإذا أسلم الزوجان معا بأن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة؛ فإنما يبقيان على نكاحهما
لأنه لم يوجد منهما اختلاف دين، وإن أسلم زوج كتابية، ولم تسلم هي بقيا على
نكاحهما؛ لأن للمسلم أن يتزوج الكتابية ابتداء، فاستدامته لنكاحها من باب أولى.
* وإن أسلمت كافرة تحت كافر قبل
الدخول بطل النكاح، لقوله تعالى:
﴿فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ﴾ وليس لها شيء من المهر، لمجيء الفرقة من قبلها.
* وإن أسلم زوج غير كتابية قبل
الدخول بطل النكاح، لقوله تعالى:
﴿وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ وعليه نصف المهر؛ لمجيء الفرقة من قبله. وإن أسلم أحد الزوجين غير
الكتابيين أو أسلمت كافرة تحت كافر بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، فإن
أسلم الآخر فيها؛ دام النكاح، وإن لم يسلم فيها، تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أسلم
الأول.
* ومن أسلم وتحته أكثر من أربع
وأسلمن، أو كن كتابيات اختار منهم أربعا؛ لأن قيس بن الحارث أسلم وتحته ثمان نسوة،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«اختر
منهن أربعا» وقاله أيضا لغيره، والله أعلم.
باب في الصداق في النكاح
الصداق مأخوذ من الصدق، لأنه
يشعر برغبة الزوج في الزوجة، وهو عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده. أما حكمه، فهو
واجب، ودليله الكتاب والسنة والإجماع.
- قال تعالى:
﴿وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ - ولفعله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يخلي النكاح من صداق، وقال: «التمس
ولو خاتما من حديد»
- وأجمع أهل العلم على
مشروعيته.
أما مقداره؛ فلا يتقدر أقله
ولا أكثره بحد معين؛ فكل ما صح أن يكون ثمنا أو أجرة؛ صح أن يكون صداقا، وإن قل أو
كثر؛ إلا أنه ينبغي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه، بأن يكون في حدود
أربعمائة درهم، وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: الصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك؛ لم يكره؛ إلا أن يقترن بذلك ما
يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك، فأما إن كان عاجزا عن ذلك، كره، بل يحرم
إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر، وهو مؤخر
في ذمته، فينبغي أن يكره؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة انتهى كلامه.
والخلاصة أن كثرة الصداق لا
تكره إذا لم تبلغ حد المباهاة والإسراف، ولم تثقل كاهل الزوج؛ بحيث تحوجه إلى
الاستعانة بغيره عن طريق المسألة ونحوها، ولم تشغل ذمته بالدين، وهي ضوابط قيمة
تكفل المصلحة وتدفع المضرة.
ويتبين من خلال ما سبق أن ما
وصل إليه الناس في قضية المهور من المغالاة الباهظة التي لا يراعى فيها جانب الزوج
الفقير والتي أصبحت صعبة المرتقى في طريق الزواج؛ أن هذه المغالاة لا شك في كراهتها
أو تحريمها، خصوصا وأنه يكون إلى جانبها تكاليف أخرى؛ من شراء الأقمشة الغالية
الثمن، والمصاغات الباهظة، والحفلات والولائم المشتملة على الإسراف والتبذير وإهدار
الأطعمة واللحوم في غير مصلحة تعود إلى الزوجين؛ لا شك أن كل ذلك من الآصار
والأغلال والتقاليد السيئة التي يجب محاربتها والقضاء عليها وتنقية طريق الزواج من
عراقيلها.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها
مرفوعا: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة» رواه أحمد والبيهقي والحاكم وغيرهم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: «ألا لا تغالوا في صدق النساء، فإنه لو كان مكرمة
في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق
رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته، أكثر من
اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه، وحتى
يقول: كلفت فيك علق القربة»
أخرجه النسائي وأبو داود.
ومنه تعلم أن كثرة الصداق قد
تكون سببا في بغض الزوج لزوجته حينما يتذكر ضخامة صداقها، ولهذا كان أعظم النساء
بركة أيسرهن مؤنة؛ كما في حديث عائشة، فتيسير الصداق يسبب البركة في الزوجة ويزرع
لها المحبة في قلب الزوج.
* والحكمة في مشروعية الصداق أن
فيه معاوضة عن الاستمتاع، وفيه تعزيز لجانب الزوجة وتقدير لمكانتها في حق الزوج.
* وتستحب تسميته الصداق،
وتحديده في العقد، لقطع النزاع.
ويجوز أن يسمى ويحدد بعد
العقد؛ لقوله تعالى:
﴿لَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾..
فدلت الآية على أن فرض الصداق
قد يتأخر عن العقد.
وأما نوعية الصداق فكما يفهم أن
كل ما جاز أن يكون ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة وقيمة لشيء؛ جاز أن يكون صداقا،
سواء كان من عين أو دين معجل أو مؤجل أو منفعة معلومة، وهذا مما يدل على أنه مطلوب
تيسير الصداق، وحسب الظروف والأحوال، تيسير الزواج الذي يتعلق به مصالح عظيمة
للأفراد والمجتمعات.