صفحة جديدة 43
باب في ميراث الغرقى والهدمى
* هذه المسألة كثيرة الوقوع، عظيمة الإشكال، ألا وهي مسألة الموت الجماعي، الذي
يموت فيه جماعة من المتوارثين، لا يعرف من السابق بالوفاة ليكون موروثا ومن المتأخر
ليكون وارثا، وكثيرا ما يقع هذا في هذا العصر نتيجة لحوادث الطرق التي يذهب فيها
الجماعات من الناس، كحوادث السيارات والطائرات والقطارات، وكذا حوادث الهدم والحريق
والغرق والقصف في الحروب وغير ذلك.
* فإذا حصل شيء من ذلك؛ فلا
يخلو الأمر من خمس حالات:
الحالة الأولى: أن يعلم أن الجماعة مات أفرادها جميعا في آن واحد لم يسبق أحدهم
الآخر، ففي هذه الحالة لا توارث بينهم بالإجماع، لأن من شرط الإرث تحقق حياة الوارث
بعد موت المورث، وهذا الشرط مفقود هنا
الحالة الثانية: أن يعلم تأخر موت أحدهم بعينه عن موت الآخر ولم ينس، فالمتأخر يرث
المتقدم بالإجماع؛ لتحقق حياة الوارث بعد موت المورث.
الحالة الثالثة: أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر من غير تعيين للمتقدم
والمتأخر.
الحالة الرابعة: أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر بعينه، لكن نسي.
الحالة الخامسة: أن يجهل واقع موتهم؛ فلا يدرى أماتوا جميعا أم ماتوا متفاوتين.
ففي هذه الأحوال الثلاث
الأخيرة مجال للاحتمال ومسرح للاجتهاد والنظر،
وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين:
القول الأول: عدم التوارث في هذه الأحوال الثلاث جميعا، وهي قول جماعة من
الصحابة، منهم: أبو بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم، وقال به
الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي، وهو تخريج في مذهب أحمد، لأن من شروط
الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، وهذا الشرط ليس بمتحقق هنا، بل ومشكوك فيه،
ولا توريث مع الشك، ولأن قتلى وقعة اليمامة وقتلى وقعة صفين وقتلى الحرة لم يورث
بعضهم من بعض.
القول الثاني: أنه يورث كل واحد من الآخر، وهو قول جماعة من الصحابة رضي الله
عنهم؛ منهم عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما، وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله، ووجه
هذا القول أن حياة كل منهم كانت ثابتة بيقين، والأصل بقاؤها إلى ما بعد موت الآخر،
ولأن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون في الشام جعل أهل البيت يموتون عن آخرهم،
فكتب بذلك إلى عمر، فأمر أن يورثوا بعضهم من بعض ويشترط للتوريث أن لا يختلف ورثة
الموتى المشتبه في ترتب موتهم، فيدعي ورثة كل ميت تأخر موت مورثهم، وليس هناك بينة؛
فإنهم حينئذ يتحالفون، ولا توارث.
وكيفية التوريث على هذا القول: أن يورث كل واحد من تلاد مال الآخر؛ أي: من ماله القديم؛ دون طريفه،
أي: ماله الجديد الذي ورثه ممن مات معه في الحادث، وذلك بأن تفرض أن أحدهم مات
أولا، فتقسم ماله القديم على ورثته الأحياء ومن مات معه، فصا حصل لمن مات معه من
ماله بهذه القسمة؛ قسمته بين ورثته الأحياء فقط، دون من مات معه، لئلا يرث مال
نفسه، ثم تعكس العملية مع الآخر، فتفرضه مات أولا، وتعمل معه ما عملته مع الأول.
*
والراجح في هذه المسألة
هو القول الأول، وهو عدم التوارث؛ لأن الإرث لا يثبت بالاحتمال والشك، وواقع الموتى
في هذه المسألة مجهول، والمجهول كالمعدوم، وتقدم موت أحدهم في هذه الحالة مجهول؛
فهو كالمعدوم، وأيضا الميراث إنما حصل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله بعده،
وهذا مفقود هنا، مع ما يلزم على القول بتوارثهم من التناقض؛ لأن توريث أحدهم من
صاحبه يقتضي أنه متأخر عنه بالوفاة، وتوريث صاحبه منه يقتضي أنه متقدم، فيكون كل
واحد منهما متقدما متأخرا، فعلى هذا القول الراجح - وهو عدم التوارث - يكون مال كل
منهم لورثته الأحياء فقط دون من مات معه، عملا باليقين، وابتعادا عن الاشتباه،
والله أعلم.
باب في التوريث بالرد
*
الرد لغة: الصرف والإرجاع، يقال: رده ردا: أرجعه وصرفه، والارتداد الرجوع،
ومنه سميت الردة، لأنها رجوع عن الدين الصحيح.
*
والرد في اصطلاح الفرضيين
هو صرف الباقي من التركة عن فروض الورثة إذا لم يكن هناك عاصب يستحقه إلى أصحاب
الفروض بقدر فروضهم.
* وذلك أن الله سبحانه قدر فروض
الورثة بالنصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس، وبين كيفية توريث العصبة من
الذكور والإناث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا
الفرائض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر»
فكان هذا الحديث الشريف مبينا للقرآن ومرتبا للورثة بنوعيهم: أصحاب الفروض والعصبات،
فإذا وجد أصحاب فروض وعصبة، فالحكم واضح، ذلك بأن يعطى ذوو الفروض فروضهم، وما بقي
بعدها يعطى للعصبة، الآن لم يبق شيء؛ سقط العصبة؛ عملا بهذا الحديث الشريف، وإن وجد
عصبة فقط؛ أخذوا المال بالتعصيب على عدد رءوسهم.
إنما الإشكال فيما إذا وجد
أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم التركة، ولم يوجد عصبة يأخذون الباقي؛ فالباقي في هذه
الحالة يرد على أصحاب الفروض بقدر فروضهم؛ غير الزوجين..
وذلك للأدلة الآتية:
أولا: أولا: قوله تعالى:
﴿وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
وأصحاب الفروض من ذوي أرحام الميت، فهم أولى بماله، وأحق من غيرهم.
ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«من ترك مالا؛ فهو لورثته» رواه البخاري ومسلم، وهذا عام
في جميع المال الذي يتركه الميت، ومنه ما يبقى بعد الفروض، فيكون أصحاب الفروض أحق
به؛ لأنه من مال مورثهم.
ثالثا: جاء في حديث «سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه، أنه قال للنبي وهو لما جاءه يعوده من مرض أصابه: يا رسول الله! لا يرثني
إلا ابنة لي» ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حصر الميراث في بنته، ولو
كان ذلك خطأ؛ لم يقره؛ فدل الحديث على أن صاحب الفرض يأخذ ما بقي بعده فرضه إذا لم
يكن هناك عاصب، وهذا هو الرد.
* والذين يرد عليهم هم جميع
أصحاب الفروض، ما عدا الزوجين لأن الزوجين قد يكونان من غير ذوي الأرحام؛ فلا
يدخلان في عموم قوله تعالى:
﴿وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
* وقد
اتفق أهل العلم على أنه لا يرد على الزوجين؛ إلا ما روي
«عن عثمان رضي الله عنه، أنه رد على زوج» وهذا
يحتمل أنه أعطاه لسبب غير الرد؛ ككونه عصبة أو ذا رحم، فأعطاه من أجل ذلك، لا من
أجل الرد. والله أعلم.