صفحة جديدة 15
باب في أحكام الإتلافات
إن الله حرم الاعتداء على أموال
الناس وابتزازها بغير حق، وشرع ضمان ما أتلف منها بغير حق، ولو عن طريق الخطأ.
فمن أتلف مالا لغيره وكان ذا المال محترما، وأتلفه بغير إذن صاحبه، فإنه يجب عليه
ضمانه. قال الإمام الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وسواء في ذلك العمد والسهو،
والتكليف وعدمه .
وكذا من تسبب في إتلاف مال كما لو فتح بابا فضاع ما كان مغلقا عليه، أو حل وعاء
فانساب ما في الوعاء وتلف، ضمن ذلك.
وكذا لو حل رباط دابة أو قيدها فذهبت وضاعت، ضمنها.
وكذا لو ربط دابة بطريق ضيق، فنتج عن ذلك أن عثر بها إنسان فتلف أو تضرر، ضمنه؛
لأنه قد تعدى بالربط في الطريق.
وكذا لو أوقف سيارة في الطريق، فنتج عن ذلك أن اصطدم بها سيارة أخرى أو شخص، فنجم
عن ذلك ضرر؛ ضمنه؛ لما رواه الدراقطني وغيره: من وقف دابة في سبيل المسلمين، أو في
سوق من أسواقهم، فوطئت بيد أو رجل؛ فهو ضامن.
وكذا لو ترك في الطريق طينا أو خشبة أو حجرا أو حفر فيه حفرة، فترتب على ذلك تلف
المار أو تضرره، أو ألقى في الطريق قشر بطيخ ونحوه، أو أرسل فيه ماء فانزلق به
إنسان فتلف أو تضرر؛ ضمنه فاعل هذه الأشياء في جميع هذه الصور، لتعديه بذلك. وما
أكثر ما يجري التساهل في هذه الأمور في وقتنا! وما أكثر ما يحفر في الطريق ويسد
وتوضع فيه العراقيل! وما أكثر الأضرار الناجمة عن تلك التصرفات دون حسيب أو رقيب،
حتى إن أحدهم ليستولي على الشارع، ويستعمله لأغراضه الخاصة، ويضايق المارة، ويضر
بهم، ولا يبالي بما يلحقه من الإثم من جراء ذلك.
ومن الأمور الموجبة للضمان ما
لو اقتنى كلبا عقورا فاعتدى على المارة وعقر أحدا فإنه يضمنه؛ لتعديه باقتناء هذا
الكلب.
وإن حفر بئرا في فنائه لمصلحته؛ ضمن ما تلف بها؛ لأنه يلزمه أن يحفظها بما يصنع ضرر
المارة، فماذا تركها بدون ذلك؛ فهو متعد.
وإذا كان له بهائم، وجب عليه
حفظها في الليل من إفساد زروع الناس، فإن تركها وأفسدت شيئا، ضمنه؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى أن «على
أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل مضمون عليهم» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه؛ فلا يضمن صاحب البهيمة ما أتلفت
بالنهار؛ إلا إن أرسلها صاحبها بقرب ما تتلفه عادة.
قال الإمام البغوي رحمه الله:
ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على
ربها، وما أفسدته بالليل، ضمنه مالكها؛ لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين
يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يحفظونها بالليل، فمن خالف هذه العادة؛ كان خارجا
عن العرف، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها؛ فعليه ضمان ما أفسدته
انتهى.
وقد ذكر الله قصة داود وسليمان
وحكمهما في ذلك، فقال سبحانه:
﴿وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ قال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله: صح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان
بالمثل؛ فإن النفش رعي الغنم ليلا، وكان ببستان عنب، فحكم داود بقيمة المتلف،
فاعتبر الغنم، فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وقضى سليمان بالضمان
على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم
يضيع عليهم مغله من حين الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك؛
ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمه نظير ما فاتهم من نماء
حرثهم، واعتبر الضمانين فوجدهما سواء، وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه
بإدراكه انتهى.
وإذا كانت البهيمة بيد راكب أو
قائد أو سائق؛ ضمن جنايتها بمقدمها؛ كيدها وفمها، لا ما جنت بمؤخرها كرجلها،
لحديث:«الرجل
جبار » وفي رواية أبي هريرة:«رجل العجماء جبار» والعجماء البهيمة،
سميت بذلك لأنها لا تتكلم، وجبار- بضم الجيم -؛ أي: جناية البهائم هدر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: كل بهيمة عجماء، كالبقر والشاة وغيرها؛ فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت
بنفسها، كما لو انفلتت ممن هي في يده وأفسدت؛ فلا ضمان على أحد، ما لم تكن عقورا،
ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق المسلمين ومجامعهم، وكذا قال غير
واحد: إنه إنما يكون جبارا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق،
إلا الضارية انتهى.
وإذا صال عليه آدمي أو بهيمة،
ولم يندفع إلا بالقتل، فقتله؛ فلا ضمان عليه؛ لأنه قتله دفاعا عن نفسه، ودفاعه عن
نفسه جائز، فلم يضمن ما ترتب عليه؛ ولأن قتله لدفع شره؛ ولأنه إذا قتله دفعا لشره؛
كان الصائل هو القاتل لنفسه. قال الشيخ تقي الدين: عليه أن يدفع الصائل عليه، فإن
لم يندفع إلا بالقتل؛ كان له ذلك باتفاق الفقهاء.
و مما لا ضمان في إتلافه آلات
اللهو، والصليب، وأواني الخمر، وكتب الضلال والخرافة والخلاعة والمجون، لما روى
أحمد عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمره أن يأخذ مدية، ثم خرج إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام،
فشققت بحضرته، وأمر أصحابه بذلك»، فدل الحديث على طلب
إتلافها وعدم ضمانها، لكن لا بد أن يكون إتلافها بأمر السلطة ورقابتها؛ ضمانا
للمصلحة، ودفعا للمفسدة.
باب في أحكام الوديعة
الإيداع: توكيل في الحفظ تبرعا.
والوديعة لغة: من ودع الشيء إذا تركه، سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع.
وهي شرعا: اسم للمال المودع عند من يحفظه بلا عوض.
و يشترط لصحة الإيداع ما يعتبر للتوكيل من البلوغ والعقل والرشد؛ لأن الإيداع توكيل
في الحفظ.
ويستحب قبول الوديعة لمن علم من
نفسه أنه ثقة قادر على حفظها لأن في ذلك ثوابا جزيلا؛ لما في الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم: «والله
في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»
ولحاجة الناس إلى ذلك، أما من لا يعلم من نفسه القدرة على حفظها؛ فيكره له قبولها.
ومن أحكام الوديعة أنها إذا تلفت عند المودع ولم يفرط، فإنه لا يضمنها، كما لو تلفت
من بين ماله؛ لأنها أمانة، والأمين لا يضمن إذا لم يتعد، وورد في حديث فيه ضعف أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من
أودع وديعة؛ فلا ضمان عليه» رواه ابن ماجه، ورواه الدارقطني بلفظ:«ليس علي المستودع غير المغل
ضمان» والمغل: الخائن، وفي رواية بلفظ:
«لا ضمان على مؤتمن» ولأن المستودع يحفظها تبرعا،
فلو ضمن، لامتنع الناس من قبول الودائع، فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطيل
المصلحة. أما المعتدي على الوديعة أو المفرط في حفظها؛ فإنه يضمنها إذا تلفت؛ لأنه
متلف لمال غيره.
*
ومن أحكام الوديعة
أنه يجب على المودع حفظها في حرز مثلها كما يحفظ ماله؛ لأن الله تعالى أمر بأدائها
في قوله:﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾
ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ ولأن المودع حينما قبل الوديعة؛ فقد التزم بحفظها،
فيلزمه ما التزم به.
* وإذا كانت الوديعة دابة؛ لزم
المودع إعلافها، فلو قطع العلف عنها بغير أمر صاحبها، فتلفت؛ ضمنها؛ لأن إعلاف
الدابة مأمور به، ومع كونه يضمنها؛ فإنه يأثم أيضا بتركه إعلافها أو سقيها حتى
ماتت؛ لأنه يجب عليه علفها وسقيها لحق الله تعالى؛ لأن لها حرمة.
* ويجوز للمودع أن يدفع الوديعة
إلى من يحفظ ماله عادة؛ كزوجته وعبده وخازنه وخادمه، وإن تلفت عند أحد من هؤلاء من
غير تعد ولا تفريط؛ لم يضمن؛ لأن له أن يتولى حفظها بنفسه أو من يقوم مقامه، وكذا
لو دفعها إلى من يحفظ مال صاحبها، برئ منها؛ لجريان العادة بذلك. أما لو سلما إلى
أجنبي منه ومن صاحبها، فتلفت؛ ضمنها المودع؛ لأنه ليس له أن يودعها عند غيره من غير
عذر، إلا إذا كان إيداعها عند الأجنبي لعذر اضطره إلى ذلك، كما لو حضره الموت أو
أراد سفرا ويخاف عليها إذا أخذها معه؛ فلا حرج عليه في ذلك، ولا يضمن إذا تلفت.
* وإن حصل خوف، أو أراد المودع أن يسافر، فإنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها أو
وكيله، فإن لم يجد صاحبها ولا وكيله؛ فإنه يحملها معه في السفر إذا كان ذلك أحفظ
لها، فإن لم يكن السفر أحفظ لها؛ دفعها إلى الحاكم؛ لأن الحاكم يقوم مقام صاحبها
عند غيبته، فإن لم يمكن إيداعها عند الحاكم؛ أودعها عند ثقة؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لما أراد أن يهاجر؛ أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن رضي الله عنها،
وأمر عليا أن يردها إلى أهلها، وكذا من حضره الموت وعنده ودائع للناس، فإنه يجب
عليه ردها إلى أصحابها، فإن لم يجدهم؛ أودعها عند الحاكم أو عند ثقة.
والتعدي على الوديعة يوجب
ضمانها إذا تلفت، كما لو أودع دابة فركبها لغير علفها أو سقيها، أو أودع ثوبا فلبسه
لغير خوف من عث، وكما لو أودع دراهم في حرز فأخرجها من حرزها، أو كانت مشدودة فأزال
الشد عنها، فإنه يضمن الوديعة إذا تلفت في هذه الحالات؛ لأنه قد تعدى بتصرفه هذا.
والمودع أمين تقبل قوله إذا
ادعى أنه ردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه، ويقبل قوله أيضا إذا ادعى أنها تلفت من
غير تفريطه مع يمينه؛ لأنه أمين؛ لأن الله تعالى سماها أمانة بقوله:﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾
والأصل براءته إذا لم تقم قرينة على كذبه، وكذا لو ادعى تلفها بحادث ظاهر كالحريق؛
فإنه لا يقبل قوله إلا إذا أقام بينة على وجود ذلك الحادث.
ولو طلب منه صاحب الوديعة ردها
إليه، فتأخر من غير عذر حتى تلفت؛ ضمنها؛ لأنه فعل محرما بإمساكها بعد طلب صاحبها
لها، والله أعلم.