صفحة جديدة 14
باب في أحكام السبق
بسم الله الرحمن الرحيم
*
المسابقة: هي المجاراة بين حيوان
وغيره، وكذا المسابقة بالسهام.
* وهي جائزة بالكتاب والسنة
والإجماع: -
قال الله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا
إن القوة الرمي»..
وقال تعالى:﴿إِنَّا
ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ أي: نترامى
بالسهام أو نتجارى على الأقدام. - وعن أبي هريرة مرفوعا:
«لا
سبق إلا في خف أو نصل أو حافر»
رواه الخمسة؛ فالحديث دليل على جواز السباق على جعل.
-
وقد حكى الإجماع على جوازه في الجملة غير واحد من أهل العلم. وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله: السباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله
به ورسوله مما يعين على الجهاد في سبيل الله .
وقال أيضا: السبق والصراع ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة
الإسلام، وأخذ السبق (أي: العوض عليه) أخذ بالحق، ويجوز اللعب بما قد يكون فيه
مصلحة بلا مضرة، ويكره لعبه بأرجوحة.
وقال الشيخ: وما ألهى وشغل عما أمر الله به، فهو منهي عنه،
وإن لم يحرم جنسه؛ كالبيع، والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع
اللهو وسائر ضروب اللعب هما لا يستعان به في حق شرعي؛ فكله حرام انتهى. وقد اعتنى
العلماء بهذا الباب، وسموه باب الفروسية، وصنفوا فيه المصنفات المشهورة.
* والفروسية أربعة أنواع:
أحدها: ركوب الخيل والكر والفر بها.
والثاني: الرمي بالقوس والآلات المستعملة في كل زمان بحسبه.
والثالث: المطاعنة بالرماح.
الرابع: المداورة بالسيوف. ومن استكمل الأنواع الأربعة؛ استكمل الفروسية.
* ويجوز السباق على الأقدام
وسائر الحيوانات والمراكب قال الإمام القرطبي رحمه الله: لا خلاف في جواز المسابقة
على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة؛
لما في ذلك من التدرب على الحرب انتهى. وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة
رضي الله عنها، وصارع ركانة فصرعه، وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ولا تجوز المسابقة على عوض إلا في المسابقة على الإبل والخيل والسهام؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم:
«لا
سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» رواه الخمسة عن أبي هريرة؛ أي: لا يجوز أخذ الجعل على السبق إلا
إذا كانت المسابقة على الإبل أو الخيل أو السهام؛ لأن تلك من آلات الحرب المأمور
بتعلمها وإحكامها، ومفهوم الحديث أنه لا يجوز أخذ العوض عن المسابقة فيما سواها،
وقيل: إن الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه الثلاثة؛ لكمال
نفعها وعموم مصلحتها، فيدخل فيها كل مغالبة جائزة ينتفع بها في الدين، لقصة ركانة
وأبي بكر.
وقال
الإمام ابن القيم: الرهان على ما فيه ظهور
الإسلام ودلالته وبراهينه من أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال وسبق
الخيل انتهى.
* ويشترط لصحة المسابقة خمسة
شروط
الشرط الأول: تعيين المركوبين في المسابقة بالرؤية.
الشرط الثاني: اتحاد المركوبين في النوع، وتعيين الرماة؛ لأن القصد معرفة حذقهم
ومهارتهم في الرمي.
الشرط الثالث: تحديد المسافة، ليعلم السابق والمصيب، وذلك بأن يكون لابتدائها
ونهايتها حد لا يختلفان فيه؛ لأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل إلا بالتساوي في
الغاية.
الشرط الرابع: أن يكون العوض معلوما مباحا.
الشرط الخامس: الخروج عن شبه القمار، بأن يكون العوض من غير المتسابقين، أو من
أحدهما فقط، فإن كان العوض من المتسابقين، فهو محل خلاف: هل يجوز، أو لا يجوز إلا
بمحلل - وهو الدخيل الذي يكون شريكا في الربح بريئا من الخسران -، واختار شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم اشتراط المحلل، وقال: عدم المحلل أولى وأقرب إلى
العدل من كون السبق من أحدهما، وأبلغ في حصول مقصود كل منهما، وهو بيان عجز الآخر،
وأكل المال بهذا أكل بحق... إلى أن قال: وما علمت من الصحابة من اشترط المحلل،
وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب، وعنه تلقاه الناس انتهى.
* ومما سبق يتبين أن المسابقة
المباحة على نوعين
النوع الأول: ما يترتب عليه مصلحة شرعية؛ كالتدرب على الجهاد، والتدرب على مسائل
العلم.
النوع الثاني: ما كان المقصود منه اللعب الذي لا مضرة فيه. فالنوع الأول والذي
يجوز أخذ العوض عليه بشروطه السابقة.
والنوع الثاني مباح بشرط أن لا يشغل عن واجب أو يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا
النوع لا يجوز أخذ العوض عليه، وقد توسع الناس اليوم في هذا النوع الأخير، وأنفذوا
فيه كثيرا من الأوقات والأموال، وهو مما لا فائدة للمسلمين فيه، ولا حول لا قوة إلا
بالله.
باب في أحكام العارية
بسم الله الرحمن الرحيم
قد عرف الفقهاء رحمهم الله
العارية بأنها إباحة نفع عين يباح الانتفاع بها وتبقى بعد استيفاء المنفعة ليردها
إلى مالكها.
فخرج بهذا التعريف ما لا يباح الانتفاع به، فلا تحل إعارته، وخرج به أيضا ما لا
يمكن الانتفاع به إلا مع تلف عينه؛ كالأطعمة والأشربة.
والعارية مشروعة بالكتاب والسنة
والإجماع:
قال تعالى:﴿وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ﴾ أي: المتاع يتعاطاه الناس
بينهم، فذم الذين يمنعونه ممن يحتاج إلى استعارته، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من
يرى وجوب الإعارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا كان المالك
غنيا.
- واستعار النبي صلى الله عليه
وسلم فرسا لأبي طلحة، واستعار من صفوان بن أمية أدراعا.
و بذل العارية للمحتاج إليها
قربة ينال بها المعير ثوابا جزيلا؛ لأنها تدخل في عموم التعاون على البر والتقوى.
ويشترط لصحة الإعارة أربعة شروط
أحدها: أهلية المعير للتبرع؛ لأن الإعارة فيها نوع من التبرع؛ فلا تصح من
صغير ولا مجنون وسفيه.
الشرط الثاني: أهلية المستعير للتبرع له، بأن يصح منه القبول.
الشرط الثالث: كون نفع العين المعارة مباحا، فلا تباح إعارة عبد مسلم لكافر ولا
صيد ونحوه لمحرم؛ لقوله تعالى:﴿وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
الشرط الرابع: كون العين المعارة مما يمكن الانتفاع به مع بقائه كما سبق.
·
و للمعير استرجاع العارية متى شاء إلا إذا ترتب على ذلك الإضرار بالمستعير؛ كما لو
أذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير إذا استرجعت العارية؛ كما لو أعاره سفينة لحمل
متاعه؛ فليس له الرجوع ما دامت في البحر، وكما لو أعاره حائطا ليضع عليه أطراف
خشبه؛ فليس له الرجوع في الحائط ما دام عليه أطراف الخشب.
* ويجب على المستعير المحافظة على العارية أشد مما يحافظ على
ماله؛ ليردها سليمة إلى صاحبها؛ لقوله تعالى:﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾
فدلت الآية على وجوب رد الأمانات، ومنها العارية، وقال صلى الله عليه وسلم:«على
اليد ما أخذت حتى تؤديه» وقال صلى الله عليه وسلم: «أد
الأمانة إلى من ائتمنك» فدلت هذه
النصوص على وجوب المحافظة على ما يؤتمن عليه الإنسان وعلى وجوب رده إلى صاحبه
سالما، وتدخل في هذا العموم العارية؛ لأن المستعير مؤتمن عليها؛ ومطلوبة منه، وهو
إنما أبيح له الانتفاع بها في حدود ما جرى به العرف؛ فلا يجوز له أن يسرف في
استعمالها إسرافا يؤدي إلى تلفها، ولا أن يستعملها فيما لا يصلح استعمالها فيه؛ لأن
صاحبها لم يأذن له بذلك، وقد قال الله تعالى:﴿هَلْ
جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾
فإن استعملها في غير ما استعيرت له فتلفت؛ وجب عليه ضمانها؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم:«على
اليد ما أخذت حتى تؤديه» رواه الخمسة، وصححه الحاكم؛ فدل على وجوب رد
ما قبضه المرء وهو ملك لغيره، ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. وإن
تلفت في انتفاع بها بالمعروف؛ لم يضمنها المستعير؛ لأن المعير قد أذن له في هذا
الاستعمال، وما ترتب على المأذون؛ فهو غير مضمون.
ولا يجوز للمستعير أن يعير
العين المعارة لأن من أبيح له شيء؛ لم يجز له أن يبيحه لغيره؛ ولأن في ذلك تعريضا
لها للتلف.
هذا؛ وقد اختلف العلماء في ضمان
المستعير للعارية إذا تلفت في يده في غير ما استعيرت له فذهب جماعة إلى وجوب ضمانها
عليه سواء تعدى أو لم يتعد؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «على
اليد ما أخذت حتى تؤديه» وذلك مثل ما لو ماتت الدابة أو
احترق الثوب أو سرقت العين المعارة، وذهب جماعة آخرون إلى عدم ضمانها إذا لم يتعد؛
لأنها لا تضمن إلا بالتعدي عليها، ولعل هذا القول هو الراجح؛ لأن المستعير قبضها
بإذن مالكها، فكانت أمانة عنده كالوديعة.
على أنه يجب على المستعير
المحافظة على العارية والاهتمام بها والمسارعة إلى ردها إلى صاحبها إذا انتهت مهمته
منها، وأن لا يتساهل بشأنها، أو يعرضها للتلف؛ لأنها أمانة عنده؛ ولأن صاحبها أحسن
إليه، و﴿هَلْ
جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
باب في أحكام الغصب
الغصب لغة: أخذ الشيء ظلما، ومعناه في اصطلاح الفقهاء: الاستيلاء على حق غيره
قهرا بغير حق.
والغصب محرم بإجماع المسلمين؛
لقوله تعالى:
﴿وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
والغصب من أعظم أكل المال بالباطل، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»
وقال صلى الله عليه وسلم:«لا
يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه»
والمال المغصوب قد يكون عقارا
وقد يكون منقولا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من
اقتطع شبرا من الأرض ظلما؛ طوقه من سبع أرضين» فيلزم الغاصب أن يتوب
إلى الله عز وجل، ويرد المغصوب إلى صاحبه، ويطلب منه العفو؛ قال صلى الله عليه
وسلم:«من كانت عنده لأخيه مظلمة؛ فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم
(يعني: يوم القيامة): إن كانت له حسنات؛ أخذ من حسناته وأعطيت للمظلوم، وإن لم تكن
له حسنات؛ أخذ من سيئات المظلوم، فطرحت عليه، وطرح في النار» أو كما قال صلى الله
عليه وسلم، فإن كان المغصوب باقيا؛ رده بحاله، وإن كان تالفا؛ رد بدله. قال الإمام
الموفق: أجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله لم يتغير. انتهى.
وكذلك يلزمه رد المغصوب
بزيادته، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها نماء المغصوب؛ فهي لمالكه كالأصل.
وإن كان الغاصب قد بنى في الأرض
المغصوبة أو غرس فيها لزمه قلع البناء والغراس إذا طالبه المالك بذلك، لقوله صلى
الله عليه وسلم:«ليس
لعرق ظالم حق» رواه الترمذي وغيره وحسنه، وإن كان ذلك يؤثر على
الأرض؛ لزمه غرامة نقصها، ويلزمه أيضا إزالة آثار الغراس والبناء المتبقية، حتى
يسلم الأرض لمالكها سليمة.
ويلزمه أيضا دفع أجرتها منذ أن
غصبها إلى أن سلمها؛ أي: أجرة مثلها؛ لأنه منع صاحبها من الانتفاع بها في هذه المدة
بغير حق.
وإن غصب شيئا وحبسه حتى رخص
سعره ضمن نقصه على الصحيح.
وإن خلط المغصوب مع غيره مما
يتميز - كحنطة بشعير -؛ لزم الغاصب تخليصه ورده، وإن خلطه بما لا يتميز - كما لو
خلط حنطة بمثلها -؛ لزمه رد مثله كيلا أو وزنا من غير المخلوط، وإن خلطه بدونه أو
أحسن منه أو خلطه بغير جنسه مما لا يتميز؛ بيع المخلوط، وأعطي كل منهما قدر حصته من
الثمن، وإن نقص المغصوب في هذه الصورة عن قيمته منفردا، ضمن الغاصب نقصه.
ومما ذكروه في هذا الباب
قولهم: والأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان : ومعناه أن الأيدي التي
ينتقل إليها المغصوب عن طريق الغاصب كلها تضمن المغصوب إذا تلف فيها، وهذه الأيدي
عشر: يد المشتري وما في معناه، ويد المستأجر، ويد القابض تملكا بلا عوض كيد المتهب،
ويد القابض لمصلحة الدافع كالوكيل، ويد المستعير، ويد الغاصب، ويد المتصرف في المال
كالمضارب، ويد المتزوج للمغصوبة، ويد القابض تعويضا بغير بيع، ويد المتلف للمغصوب
نيابة عن غاصبه، وفي كل هذه الصور: إذا علم الثاني بحقيقة الحال، وأن الدافع إليه
غاصب؛ فقرار الضمان عليه؛ لتعديه على ما يعلمه غير مأذون فيه من مالكه، وإن لم يعلم
بحقيقة الحال؛ فالضمان على الغاصب الأول.
وإذا كان المغصوب مما جرت
العادة بتأجيره لزم الغاصب أجرة مثله مدة بقائه بيده؛ لأن المنافع مال متقوم، فوجب
ضمانها كضمان العين.
وكل تصرفات الغاصب الحكمية
باطلة، لعدم إذن المالك.
وإن غصب شيئا، وجهل صاحبه، ولم يتمكن من رده إليه؛ سلمه إلى الحاكم الذي يضعه في
موضعه الصحيح، أو تصدق به عن صاحبه، وإذا تصدق به؛ صار ثوابه لصاحبه، وتخلص منه
الغاصب.
وليس اغتصاب الأموال مقصورا على
الاستيلاء عليها بالقوة، بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة
والأيمان الفاجرة:
قال الله تعالى:
﴿وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ﴾..
وقال تعالى:
﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾..
فالأمر شديد والحساب عسير.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من
غصب شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من
قضيت له بحق أخيه؛ فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار».