صفحة جديدة 8
باب في أحكام الضمان
* ومن التوثيقات الشرعية للديون الضمان، وهو مأخوذ من الضمن؛ لأن ذمة الضامن صارت
في ضمن ذمة المضمون عنه..
وقيل: مشتق من التضمن، لأن ذمة
الضامن تتضمن الحق المضمون..
وقيل: مشتق من الضم؛ لضم ذمة
الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت الحق في ذمتيهما جميعا.
* ومعنى الضمان شرعا: التزام ما
وجب على غيره، مع بقائه على مضمون عنه، والتزام ما قد يجب أيضا؛ كأن يقول: ما أعطيت
فلانا؛ فهو عليّ.
* والضمان جائز بالكتاب والسنة
والإجماع: - قال تعالى:
﴿وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾
أي: ضامن.
- وروى الإمام الترمذي مرفوعا: «الزعيم
غارم» أي: ضامن.
- وقد أجمع العلماء على جواز
الضمان في الجملة.
والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو
الحاجة والضرورة إليه، وهو من التعاون على البر والتقوى، ومن قضاء حاجة المسلم،
وتنفيس كربته.
* ويشترط لصحته أن يكون الضامن
جائز التصرف، لأنه تحمل مال، فلا يصح من صغير ولا سفيه محجور عليه، ويشترط رضاه
أيضا، فإن أكره على الضمان؛ لم يصح؛ لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى
كالتبرع بالأموال.
* والضمان عقد إرفاق يقصد به
نفع المضمون وإعانته؛ فلا يجوز أخذ العوض عليه، ولأن أخذ العوض على الضمان يكون
كالقرض الذي جر نفعا؛ فالضامن يلزمه أداء الدين عن المضمون عند مطالبته بذلك، فإذا
أداه للمضمون له؛ فإنه سيسترده من المضمون عنه على صفة القرض، فيكون قرضا جر نفعا،
فيجب الابتعاد عن مثل هذا، وأن يكون الضمان مقصودا به التعاون والإرفاق، لا
الاستغلال وإرهاق المحتاج.
*
ويصح الضمان بلفظ:
أنا ضمين، أو: أنا قبيل، أو: أنا حميل، أو: أنا زعيم، وبلفظ: تحملت دينك، أو:
ضمنته، أو: هو عندي، وبكل لفظ يؤدي معنى الضمان، لأن الشارع لم يحد ذلك بعبارة
معينة، فيرجع فيه إلى العرف.
* ولصاحب الحق أن يطالب من شاء
من الضامن أو المضمون، لأن حقه ثابت في ذمتهما؛ فملك مطالبة من شاء منهما، ولقوله
صلى الله عليه وسلم: «الزعيم
غارم»
رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والزعيم هو الضامن، والغارم معناه الذي يؤدي شيئا
لزمه، وهذا قول الجمهور.
وذهب بعض العلماء إلى أن صاحب
الحق لا يجوز له مطالبة الضامن، إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه، لأن الضمان فرع،
ولا يصار إليه إلا إذا تعذر الأصل، ولأن الضمان توثيق للحق كالرهن، والرهن لا
يستوفى منه الحق إلا عند تعذر الاستيفاء من الراهن، ولأن مطالبة الضامن مع وجود
المضمون عنه ويسرته فيها استقباح من الناس، لأن المعهود عندهم أنه لا يطالب الضامن
إلا عند تعذر مطالبة المضمون عنه أو عجزه عن التسديد، هذا هو المتعارف عند الناس.
هذا معنى ما ذكره الإمام ابن القيم، وقال: هذا القول في القوة كما ترى .
·
ومن مسائل الضمان أن ذمة الضامن لا تبرأ إلا إذا
برئت ذمة المضمون عنه من الدين بإبراء أو قضاء، لأن ذمة الضامن فرع عن ذمة المضمون
وتبع لها، ولأن الضمان وثيقة، فإذا برئ الأصل، زالت الوثيقة؛ كالرهن.
·
ومن مسائل الضمان أنه يجوز تعدد الضامنين فيجوز
أن يضمن الحق اثنان فأكثر، سواء ضمن كل واحد منهما جميعه أو جزءا منه، ولا يبرأ أحد
منهم -59- إلا ببراءة الآخر، ويبرءون جميعا ببراءة المضمون عنه.
*
ومن مسائل الضمان أنه لا يشترط في صحته معرفة الضامن للمضمون عنه، كأن يقول: من
استدان منك؛ فأنا ضمين، ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون له، لأنه لا يشترط رضى
المضمون له والمضمون عنه؛ فلا يشترط معرفتهما.
*
ومن مسائل الضمان
أنه يصح ضمان المعلوم وضمان المجهول إذا كان يئول إلى العلم؛ لقوله تعالى:﴿وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾
لأن حمل البعير غير معلوم، لكنه يئول إلى العلم، فدلت الآية على جوازه.
* ومن مسائل الضمان
أنه يصح ضمان عادة المبيع - والعهدة هي الدرك -، بأن يضمن الثمن إذا ظهر المبيع
مستحقا لغير البائع.
*
ومن مسائل الضمان أنه يجوز ضمان ما يجب على الشخص، كأن يضمن ما يلزمه من دين ونحوه.
باب في أحكام الكفالة
* الكفالة هي التزام إحضار من عليه حق مالي لربه. فالعقد في الكفالة واقع على بدن
المكفول، فتصح الكفالة ببدن كل إنسان عليه حق مالي؛ كالدين، ولا تصح الكفالة ببدن
من عليه حد، لأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء بالشبهات؛ فلا يدخل
فيها الاستيثاق، ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص، لأنه لا يمكن استيفاؤه من غير
الجاني، ولا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول.
* ويشترط لصحة الكفالة أن تكون
برضى الكفيل، لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه.
* ويبرأ الكفيل بموت المكفول
المتعذر إحضاره ويبرأ كذلك بتسليم المكفول نفسه لرب الحق في محل التسليم وأجله،
لأنه أتى بما يلزم الكفيل، وإذا تعذر إحضار المكفول مع حياته أو غاب ومضى زمن يمكن
إحضاره فيه، فإن الكفيل يضمن ما عليه من الدين؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم
غارم».
* ومن مسائل الكفالة أنه يجوز
ضمان معرفة الشخص كما لو جاء إنسان ليستدين من إنسان، فقال: أنا لا أعرفك فلا
أعطيك. فقال شخص آخر: أنا أضمن لك معرفته، أي: أعرِّفك من هو وأين هو؛ فإنه يلزم
بإحضاره إذا غاب، ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه، فإن عجز عن إحضاره مع حياته، ضمن
ما عليه، لأنه هو الذي دفع الدائن أن يعطيه ماله بتكفله لمعرفته، فكأنه قال: ضمنت
لك حضوره متى أردت، فصار ذلك كما لو قال: تكفلت لك ببدنه.
باب في أحكام الحوالة
·
الحوالة لغة مشتقة من التحول؛ لأنها تحول الدين من ذمة إلى ذمة أخرى، ومن ثم عرفها
الفقهاء بأنها نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى.
·
وهي ثابتة بدليل السنة والإجماع: - قال صلى الله عليه وسلم: «إذا
أتبع أحدكم على مليء؛ فليتبع» وفي لفظ: «من
أحيل بحقه على مليء، فليحتل».
-
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ثبوتها.
* وفيها إرفاق بين الناس، وتسهيل لسبل معاملاتهم، وتسامح، وتعاون على قضاء حاجاتهم،
وتسديد ديونهم، وتوفير راحتهم.
* وقد ظن بعض الناس أن الحوالة
على غير وفق القياس؛ لأنها بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين ممنوع، لكنه جاز في
الحوالة على غير وفق القياس، وقد رد هذا العلامة ابن القيم، وبين أنها جارية على
وفق القياس؛ لأنها من جنس إيفاء الحق، لامن جنس البيع.
قال: وإن كانت بيع دين بدين، فلم ينه الشارع عن ذلك، بل
قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإنها اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة
المحال عليه. انتهى.
* ولا تصح الحوالة إلا بشروط:
الشرط الأول: أن تكون على دين مستقر في ذمة المحال عليه؛ لأن مقتضاها إلزام
المحال عليه بالدين، وإذا كان هذا الدين غير مستقر؛ فهو عرضة للسقوط؛ فلا تثبت
الحوالة عليه؛ فلا تصح الحوالة على ثمن مبيع في مدة الخيار، ولا تصح الحوالة من
الابن على أبيه إلا برضاه.
الشرط الثاني: اتفاق الدينين المحال به والمحال عليه؛ أي: تماثلهما في الجنس؛
كدراهم على دراهم، وتماثلهما في الوصف؛ كأن يحيل بدراهم مضروبة على دراهم مضروبة،
ونقود سعودية مثلا على نقود سعودية مثلها، وتماثلهما في الوقت، أي: في الحلول
والتأجيل، فلو كان أحد الدينين حالا والآخر مؤجلا، أو أحدهما يحل بعد شهر والآخر
يحل بعد شهرين؛ لم تصح الحوالة، وتماثل الدينين في المقدار؛ فلا تصح الحوالة بمائة
مثلا على تسعين ريالا؛ لأنها عقد إرفاق؛ كالقرض، فلو جاز التفاضل فيها؛ لخرجت عن
موضوعها - وهو الإرفاق - إلى طلب الزيادة بها، وهذا لا يجوز كما لا يجوز في القرض،
لكن لو أحال ببعض ما عليه من الدين، أو أحال على بعض ما له من الدين؛ جاز ذلك،
ويبقى الزائد بحاله لصاحبه.
الشرط الثالث: رضى المحيل لأن الحق عليه، فلا يلزمه أن يسدده عن طريق الحوالة،
ولا يشترط رضى المحال عليه؛ كما لا يشترط أيضا رضى المحتال إذا أحيل على مليء غير
مماطل، بل يجبر على قبول الحوالة، ومطالبة المحال عليه بحقه، لقوله صلى الله عليه
وسلم: «مطل
الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء؛ فليتبع» متفق عليه، وفي لفظ:
«من
أحيل بحقه على مليء، فليحتل» أي: ليقبل الحوالة، والمليء هو القادر على الوفاء، الذي لا يعرف
بمماطلة، فإن كان المحال عليه غير مليء، لم يلزم المحال قبول الحوالة عليه، لما في
ذلك من الضرر عليه.
* وبهذه المناسبة؛ فالنصيحة لمن
عليهم حقوق للناس وعندهم المقدرة على تسديدها أن يبادروا بإبراء ذممهم بأدائها
لأصحابها أو لمن أحيل عليهم بها، وأن لا يلطخوا سمعتهم بالمماطلة والمراوغة؛ فكثيرا
ما نسمع التظلمات من أصحاب الحقوق بسبب تأخير حقوقهم وتساهل المدينين بتسديدها من
غير عذر شرعي؛ كما أننا كثيرا ما نسمع مماطلة الأغنياء بتسديد الحوالات الموجهة
إليهم، وإتعاب المحالين، حتى أصبحت الحوالة شبحا مخيفا، ينفر منها كثير من الناس،
بسبب ظلم الناس.
* وإذا صحت الحوالة؛ بأن اجتمعت
شروطها المذكورة، فإن الحق ينتقل بها من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وتبرأ ذمة
المحيل من هذا الحق؛ لأن معناها تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فلا يسوغ للمحال أن
يرجع إلى المحيل؛ لأن حقه انتقل إلى غيره، فعليه أن يصرف وجهته ومطالبته إلى المحال
عليه، فيستوفي منه أو يصطلح معه على أي شكل من الأشكال في نوعية الاستيفاء،
فالحوالة الشرعية وفاء صحيح وطريق مشروع، وفيها تيسير على الناس إذا استغلت
استغلالا صحيحا واستعملت استعمالا حسنا ولم يكن فيها مخادعة ولا مراوغة.