صفحة جديدة 6
وهم ثمانية أصناف:
أحدهم: الفقراء، وهم أشد حاجة من المساكين، لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما
يبدأ بالأهم فالأهم، والفقراء هم الذين لا يجدون شيئا يكتفون به في معيشتهم، ولا
يقدرون على التكسب، أو يجدون بعض الكفاية، فيعطون من الزكاة كفايتهم إن كانوا لا
يجدون منها شيئا، أو يعطون تمام كفايتهم إن كانوا يجدون بعضها لعام كامل.
الثاني: المساكين، وهم أحسن حالا من الفقراء، فالمسكين هو الذي يجد أكثر
كفايته أو نصفها، فيعطى من الزكاة تمام كفايته لعام كامل.
الثالث: العاملون عليها، وهم العمال الذين يقومون بجمع الزكاة من أصحابها،
ويحفظونها، ويوزعونها على مستحقيها بأمر إمام المسلمين، فيعطون من الزكاة قدر أجرة
عملهم، إلا إن كان ولي الأمر قد رتب لهم رواتب من بيت المال على هذا العمل، فلا
يجوز أن يعطوا شيئا من الزكاة، كما هو الجاري في هذا الوقت، فإن العمال يعطون من
قبل الدولة، فيأخذون انتدابات على عملهم في الزكاة، فهؤلاء حرام عليهم أن يأخذوا من
الزكاة شيئا عن عملهم؛ لأنهم قد أعطوا أجرة عملهم من غيرها.
الرابع: المؤلفة قلوبهم: جمع مؤلف من التأليف وهو جمع القلوب، والمؤلفة
قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون، فالكافر يعطى من الزكاة إذا رجي إسلامه لتقوى نيته على
الدخول في الإسلام وتشتد رغبته، أو إذا حصل بإعطائه كف شره عن المسلمين أو شر غيره،
والمسلم المؤلف يعطى من الزكاة لتقوية إيمانه، أو رجاء إسلام نظيره... ونحو ذلك من
الأغراض الصحيحة المفيدة للمسلمين، والإعطاء للتأليف إنما يعمل به عند الحاجة إليه
فقط؛ "لأن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم تركوا الإعطاء للتأليف، لعدم الحاجة إليه
في وقتهم"
الخامس: الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون الذين لا يجدون وفاء، فيعطى المكاتب
ما يقدر به على وفاء دينه حتى يعتق ويخلص من الرق، ويجوز أن يشتري المسلم من زكاته
عبدا فيعتقه، ويجوز أن يفتدى من الزكاة الأسير المسلم؛ لأن في ذلك فك رقبة المسلم
من الأسر.
السادس: الغارم، وانفراد بالغارم
المدين،
وهو نوعان:
أحدهما: غارم لغيره، وهو الغارم لأجل
إصلاح ذات البين، بأن يقع بين قبيلتين أو قريتين نزاع في دماء أو أموال، ويحدث بسبب
ذلك بينهم شحناء وعداوة، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالا عوضا عما
بينهم، ليطفئ الفتنة، فيكون قد عمل معروفا عظيما، من المشروع حمله عنه من الزكاة،
لئلا تجحف الحمالة بماله، وليكون ذلك تشجيعا له ولغيره على مثل هذا العمل الجليل،
الذي يحصل به كف الفتن والقضاء على الفساد، بل لقد أباح الشارع لهذا الغارم المسألة
لتحقيق هذا الغرض بما ففي "صحيح مسلم" عن قبيصة، قال: تحولت حمالة، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم:
«أقم
حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها».
الثاني: الغارم لنفسه، كأن يفتدي نفسه
من كفار، أو يكون عليه دين لا يقدر على تسديده، فيعطى من الزكاة ما يسدد به دينه،
لقوله تعالى:
﴿وَالْغَارِمِينَ﴾.
السابع: في سبيل الله، بأن يعطى من
الزكاة الغزاة المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال؛ لأن المراد بسبيل الله
عند الإطلاق الغزو، قال تعالى:
﴿إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ﴾
وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر
المنقطع به في سفره بسبب نفاد ما معه أو ضياعه؛ لأن السبيل هو الطريق، فسمي من لزمه
ابن السبيل، فيعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده، وإن كان في طريقه إلى بلد قصده،
أعطي ما يوصله ذلك البلد، وما يرجع به إلى بلده، (ويدخل في ابن السبيل الضيف كما
قال ابن عباس وغيره) وإن بقي مع ابن السبيل أو الغازي أو الغارم أو المكاتب شيء مما
أخذوه من الزكاة زائدا عن حاجتهم، وجب عليهم رده؛ لأنه لا يملك ما أخذه ملكا مطلقا،
وإنما يملكه ملكا مراعى بقدر الحاجة، وتحقق السبب الذي أخذه من أجله، فإذا زال
السبب، زال الاستحقاق.
واعلم أنه يجوز صرف جميع الزكاة
في صنف واحد من هذه الأصناف المذكورة، قال تعالى:
﴿وَإِنْ
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾..
ولحديث معاذ حين بعثه النبي صلى
الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال:
«أعلمهم
أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»
متفق عليه، فلم يذكر في الآية والحديث إلا صنفا واحدا، فدل على جواز صرفها إليه.
ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد،
«لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر»
رواه أحمد..
وقال صلى الله عليه وسلم
لقبيصة:
«أقم
يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» فدل الحديثان على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية.
ويستحب دفعها إلى أقاربه
المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم الأقرب فالأقرب، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«صدقتك
على ذي القرابة صدقة وصلة»
رواه الخمسة وحسنه الترمذي.
ولا يجوز دفع الزكاة إلى بني
هاشم، ويدخل فيهم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد
المطلب، وآل أبي لهب، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إن
الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس»
أخرجه مسلم.
ولا يجوز دفع الزكاة إلى امرأة
فقيرة إذا كانت تحت زوج غني ينفق عليها، ولا إلى فقير إذا كان له قريب غني ينفق
عليه، لاستغنائهم بتلك النفقة عن الأخذ من الزكاة.
ولا يجوز للإنسان أن يدفع زكاة
ماله إلى أقاربه الذين يلزمه الإنفاق عليهم، لأنه يقي بها ماله حينئذ، أما من كان
ينفق عليه تبرعا، فإنه يجوز أن يعطيه من زكاته، ففي "الصحيح"
«أن
امرأة عبد الله سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بني أخ لها أيتام في حجرها،
أفتعطيهم زكاتها، قال: نعم».
ولا يجوز دفع زكاته إلى أصوله،
وهم آباؤه وأجداده، ولا إلى فروعه، وهم أولاده وأولاد أولاده. ولا يجوز له دفع
زكاته إلى زوجته، لأنها مستغنية بإنفاقه عليها، ولأنه يقي بها ماله. ويجب على
المسلم أن يتثبت من دفع الزكاة، فلو دفعها لمن ظنه مستحقا، فتبين أنه غير مستحق، لم
تجزئه، أما إذا لم يتبين عدم استحقاقه، فالدفع إليه يجزئ، اكتفاء بغلبة الظن، ما لم
يظهر خلافه،
«لأن
النبي صلى الله عليه وسلم حينما أتاه رجلان يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر،
ورآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب».
باب في الصدقة المستحبة
وإلى جانب الزكاة الواجبة في
المال هناك صدقة مستحبة تشرع كل وقت لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة والترغيب
فيها، فقد حث الله عليها في كتابه العزيز في آيات كثيرة:
قال تعالى:
﴿وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾..
وقال تعالى:
﴿وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾..
وقال تعالى:
﴿مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً﴾.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن
الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء»
رواه الترمذي وحسنه.
وفي "الصحيحين":
«سبعة
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»..
وذكر منهم:
«ورجلا
تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، والأحاديث قي هذا
كثيرة.
وصدقة السر أفضل، لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
ولأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على إظهار الصدقة وإعلانها مصلحة راجحة من
اقتداء الناس به.
وينبغي أن تكون طيبة بها نفسه،
غير ممتن بها على المحتاج، قال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾،
والصدقة في حال الصحة أفضل، «قال
صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصدقة أفضل، قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل
الغنى وتخشى الفقر».
والصدقة في الحرمين الشريفين
أفضل، لأمر الله بها في قوله:
﴿فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾.
والصدقة في رمضان أفضل، لقول
ابن عباس:
«كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه
جبريل، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة».
والصدقة في أوقات الحاجة أفضل،
قال تعالى:
﴿أَوْ
إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا
مَتْرَبَةٍ﴾.
كما أن الصدقة على الأقارب
والجيران أفضل منها على الأبعدين، فقد أوصى الله بالأقارب، وجعل لهم حقا على قريبهم
في كثير من الآيات، كقوله تعالى:
﴿وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾..
وقال عليه الصلاة والسلام:
«الصدقة
على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» رواه الخمسة وغيرهم..
وفي "الصحيحين":
«أجران:
أجر القرابة، وأجر الصدقة».
ثم اعلم أن في المال حقوقا سوى
الزكاة، نحو مواساة القرابة، وصلة الإخوان، لإعطاء سائل، وإعارة محتاج، وإنظار
معسر، وإقراض مقترض، قال تعالى:
﴿وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
ويجب إطعام الجائع وقري الضيف
وكسوة العاري وسقي الظمآن، بل ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يجب على المسلمين
فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم.
كما أنه يشرع لمن حصل على مال
وبحضرته أناس من الفقراء والمساكين أن يتصدق عليهم منه..
قال تعالى:
﴿وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾..
وقال تعالى:
﴿وَإِذَا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾..
وهذه من محاسن دين الإسلام؛
لأنه دين المواساة والرحمة، ودين التعاون والتآخي في الله، فما أجمله من دين وما
أحكمه من تشريع.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا
البصيرة في دينه والتمسك بشريعته، إنه سميع.