صفحة جديدة 6
ويستحب التبكير في الذهاب إلى
المسجد يوم الجمعة، فإذا دخل المسجد؛ صلى تحية المسجد ركعتين. وإن كان مبكرا فأراد
أن يتنفل بزيادة صلوات؛ فلا مانع من ذلك؛ لأن السلف كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج
الإمام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: "والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام؛ لما في
"الصحيح" من قوله صلى الله عليه وسلم "ثم يصلي ما كتب له"، بل ألفاظه صلى الله عليه
وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت، وهو
المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة؛ يصلون من حين يدخلون ما
تيسر؛ فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي
ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا؛ كان جماهير الأئمة متفقين على أنه
ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد، والصلاة قبل الجمعة حسنة، وليست بسنة
راتبة، وإن فعل أو ترك، لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ؛ فقد يكون الترك
أفضل، إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة" ا هـ.
هذا ما يتعلق بصلاة النافلة
قبل صلاة الجمعة؛ فليس لها راتبة قبلها، وإنما راتبتها بعدها، ففي "صحيح مسلم": «إذا
صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات»..
وفي "الصحيحين": «أنه
صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين»
والجمع بين الحديثين أنه إن صلى
في بيته؛ صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد، صلى أربع ركعات، وإن شاء صلى ست ركعات؛
لقول ابن عمر: و«كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة، تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعا»
والأحقية في المكان في المسجد للسابق بالحضور بنفسه، وأما ما يفعله الناس من حجز
مكان في المسجد، توضع فيه سجادة أو عصا أو نعلان، ويتأخر هو عن الحضور، ويحرم
المتقدم من ذلك المكان، فإن ذلك عمل غير سائغ، بل صرح بعض العلماء أن لمن أتى
المسجد رفع ما وضع في ذلك المكان والصلاة فيه؛ لأن السابق يستحق الصلاة في الصف
الأول، ولأن وضع الحمى للمكان في المسجد دون حضور من الشخص اغتصاب للمكان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: "وما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل
صلاتهم؛ فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل محرم، وهل تصح صلاة على ذلك المفروش؟
فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من
المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، والمأمور به أن يسبق
الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو؛ فقد خالف الشريعة من
جهتين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه
السابقين له، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه إذا حضر يتخطى رقاب الناس" ا هـ.
ومن أحكام الجمعة أن من دخل
المسجد والإمام يخطب؛ لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: «إذا
جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام؛ فليصل ركعتين» متفق عليه..
زاد مسلم: وليتجوز فيهما أي:
يسرع. فإن جلس؛ قام فأتى بهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس
قبل أن يصليهما..
فقال له:«قم
فاركع ركعتين»..
ومن أحكام صلاة الجمعة أنه لا
يجوز الكلام والإمام يخطب: لقوله تعالى:
﴿وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾..
قال بعض المفسرين: "إنها نزلت
في الخطبة، وسميت قرانا؛ لاشتمالها على القرآن"، وحتى على القول الآخر بأن الآية
نزلت في الصلاة، فإنها تشمل بعمومها الخطبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من
قال صه؛ فقد لغا، ومن لغا؛ فلا جمعة له»
رواه أحمد.
وفي الحديث الآخر:«من
تكلم، فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت؛ ليست له جمعة»
والمراد لا جمعة له كاملة.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي
هريرة: «إذا
قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب؛ فقد لغوت»..
أي: قلت اللغو، واللغو الإثم،
فإذا كان الذي يقول للمتكلم: أنصت - وهو في الأصل يأمر بمعروف -، قد لغا، وهو منهي
عن ذلك؛ فغير ذلك من الكلام من باب أولى.
ويجوز للإمام أن يكلم بعض
المأمومين حال الخطبة، ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كلم سائلا، وكلمه هو، وتكرر ذلك في عدة وقائع كلم فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعض الصحابة وكلموه حال الخطبة فيما فيه مصلحة وتعلم، ولأن ذلك لا يشغل عن
سماع الخطبة.
ولا يجوز لمن يستمع الخطبة أن
يتصدق على السائل وقت الخطبة، لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله؛ فلا يعينه على ما
لا يجوز، وهو الكلام حال الخطبة.
وتسن الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب، ولا يرفع صوته بها؛ لئلا يشغل غيره بها.
ويسن أن يؤمن على دعاء الخطيب
بلا رفع صوت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ورفع الصوت قدام الخطيب مكروه
أو محرم اتفاقا، ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاة ولا غيرها" اهـ. ويلاحظ أن
هذا الذي نبه عليه الشيخ لا يزال موجودا في بعض الأمصار، من رفع الصوت بالصلاة على
الرسول أو غير ذلك من الأدعية حال الخطبة أو قبلها أو بين الخطبتين، وربما أن بعض
الخطباء يأمر الحاضرين بذلك، وهذا جهل وابتداع لا يجوز فعله.
ومن دخل والإمام يخطب؛ فإنه لا
يسلم، بل ينتهي إلى الصف بسكينة، ويصلي ركعتين خفيفتين كما سبق، ويجلس لاستماع
الخطبة، ولا يصافح من بجانبه.
ولا يجوز له العبث حال الخطبة
بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من
مس الحصا؛ فقد لغا، ومن لغا، فلا جمعة له»
صححه الترمذي، ولأن العبث يمنع
الخشوع.
وكذلك لا ينبغي له أن يتلفت
يمينا وشمالا، ويشتغل بالنظر إلى الناس، أو غير ذلك، لأن ذلك يشغله عن الاستماع
للخطبة، ولكن ليتجه إلى الخطيب كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتجهون إلى النبي صلى
الله عليه وسلم حال الخطبة.
وإذا عطس؛ فإنه يحمد الله سرا
بينه وبين نفسه.
ويجوز الكلام قبل الخطبة
وبعدها وإذا جلس الإمام بين الخطبتين لمصلحة، لكن لا ينبغي التحدث بأمور الدينا.
وبالجملة؛ فخطبتا الجمعة لهما
أهمية عظيمة في الإسلام؛ لما تشتملان عليه من تلاوة القرآن وذكر أحاديث الرسول صلى
الله عليه وسلم، وتضمنهما التوجيهات النافعة والموعظة الحسنة والتذكير بأيام الله،
فيجب الاهتمام بهما من قبل الخطيب ومن قبل المستمعين؛ فليست خطبة الجمعة مجرد حديث
عادي كالأحاديث التي تلقى في النوادي والاحتفالات والاجتماعات العادية. ومما ينبغي
التنبيه عليه أن بعض المستمعين لخطبتي الجمعة يرفع صوته بالتعوذ عندما يسمع شيئا من
الوعيد في الخطبة، أو يرفع صوته بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئا من ذكر الثواب أو
الجنة، وهذا شيء لا يجوز، وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة.
وقد دلت النصوص على أن الكلام
حال الخطبة يفسد الأجر، وأن المتكلم لا جمعة له، وأنه كالحمار يحمل أسفارا، فيجب
الحذر من ذلك والتحذير منه. وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن صلاة الجمعة فرض مستقل،
ليست بدلا من الظهر. قال «عمر رضي الله عنه: "صلاة الجمعة
ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم»..
وذلك لأنها تخالف صلاة الظهر في
أحكام كثيرة، وهي أفضل من صلاة الظهر، وآكد منها، لأنه ورد على تركها زيادة تهديد،
ولأن لها شروطا وخصائص ليست لصلاة الظهر، ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه
ما لم يخرج وقتها؛ فصلاة الظهر حينئذ تكون بدلا عنها.