صفحة جديدة 5
ويباح الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للمريض الذي يلحقه بترك الجمع
مشقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة،
فإذا احتاجوا الجمع، جمعوا، والأحاديث كلها تدل على أنه يجمع في الوقت الواحد لرفع
الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل
على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى" اهـ.
وقال أيضا: "يجمع المرضى كما
جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في
حديثين، ويباح الجمع لمن يعجز عن الطهارة لكل صلاة؛ كمن به سلس بول، أو جرح لا يرقأ
دمه، أو رعاف دائم؛ قياسا على المستحاضة؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام لحمنة حين
استفتته في الاستحاضة: «وإن
قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، فتغتسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جمعا، ثم
تؤخري المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي» رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه.
ويباح الجمع بين المغرب
والعشاء خاصة لحصول مطر يبل الثياب، وتوجد معه مشقة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جمع
بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة، وفعله أبو بكر وعمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله: "يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء
ونحو ذلك، وإن لم يكن المطر نازلا في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في
بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة؛ إذ السنة أن تصلى
الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين،
والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين
يجوزون الجمع، كمالك والشافعي وأحمد" انتهى.
ومن يباح له الجمع؛ فالأفضل له
أن يفعل الأرفق به من جمع تأخير أو جمع تقديم، والأفضل بعرفة جمع التقديم بين الظهر
والعصر، وبمزدلفة الأفضل جمع التأخير بين المغرب والعشاء، لفعله عليه الصلاة
والسلام، وجمع التقديم بعرفة لأجل اتصال الوقوف، وجمع التأخير بمزدلفة من أجل
مواصلة السير إليها.
وبالجملة، فالجمع بين الصلاتين
في عرفة ومزدلفة سنة، وفي غيرهما مباح يفعل عند الحاجة، وإذا لم تدع إليه حاجة،
فالأفضل للمسافر أداء كل صلاة في وقتها؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في أيام
الحج إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى؛ لأنه نازل، وإنما كان يجمع إذا جد به
السير.
هذا ونسأل الله للجميع التوفيق
للعلم النافع والعمل الصالح.
رابعا: صلاة الخوف
تشرع صلاة الخوف في كل قتال
مباح؛ كقتال الكفار والبغاة والمحاربين؛ لقوله تعالى:
﴿إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله، ولا تجوز صلاة الخوف في قتال محرم.
والدليل على مشروعية صلاة الخوف
الكتاب والسنة والإجماع:
قال الله تعالى:
﴿وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾.
قال الإمام أحمد رحمه الله:
"صحت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة كلها جائزة" اهـ.
فهي مشروعة في زمنه عليه الصلاة
والسلام، وتستمر مشروعيتها إلى آخر الدهر، وأجمع على ذلك الصحابة وسائر الأئمة ما
عدا خلافا قليلا لا يعتد به.
وتفعل صلاة الخوف عند الحاجة
إليها سفرا وحضرا، إذا خيف هجوم العدو على المسلمين؛ لأن المبيح لها هو الخوف لا
السفر، لكن صلاة الخوف في الحضر لا يقصر فيها عدد الركعات، وإنما تقصر فيها صفة
الصلاة، وصلاة الخوف في السفر يقصر فيها عدد الركعات إذا كانت رباعية، وتقصر فيها
الصفة.
وتشرع صلاة الخوف بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون العدو يحل قتاله كما سبق.
الشرط الثاني: أن يخاف هجومه على المسلمين حال الصلاة؛ لقوله تعالى:
﴿إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾..
وقوله:
﴿وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾.
ومن صفات صلاة الخوف الصفة
الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل ابن أبي حثمة الأنصاري رضي الله
عنه، وقد اختار الإمام أحمد العمل بها؛ لأنها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن
الكريم، وفيها احتياط للصلاة واحتياط للحرب، وفيها نكاية بالعدو، وقد فعل عليه
الصلاة والسلام هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع، وصفتها كما رواها سهل هي: أن طائفة
صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت
قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى
بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم" متفق
عليه.
ومن صفات صلاة الخوف ما روى «جابر،
قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا صفين - والعدو بيننا
وبين القبلة -، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم
رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقال الصف
المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي
يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم،
ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف
الذي يليه وكان مؤخرا في الركعة الأولى، وقال الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى
صلى الله عليه وسلم السجود، وقال الصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود،
فسجدوا، ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا»
رواه مسلم.
ومن صفات صلاة الخوف ما رواه
ابن عمر، قال: «صلى
النبي صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا
وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم
قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة» متفق عليه.
ومن صفات صلاة الخوف أن يصلي
بكل طائفة صلاة، ويسلم بها، رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
ومن صفات صلاة الخوف ما رواه «جابر؛
قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، "حتى إذا كنا بذات الرقاع" قال:
"فنودي للصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين" قال:
"فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان»
متفق عليه.
وهذه الصفات تفعل إذا لم يشتد
الخوف، فإذا اشتد الخوف، بأن تواصل الطعن والضرب والكر والفر، ولم يمكن تفريق القوم
وصلاتهم على ما ذكر، وحان وقت الصلاة؛ صلوا على حسب حالهم، رجالا وركبانا، للقبلة
وغيرها يومئون بالركوع والسجود حسب طاقتهم، ولا يؤخرون الصلاة...
لقوله تعالى:
﴿فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾
أي: فصلوا رجالا أو ركبانا، والرجال جمع راجل، وهو الكائن على رجليه ماشيا أو
واقفا، والركبان جمع راكب.
ويستحب أن يحمل معه في صلاة
الخوف من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله، لقوله تعالى:
﴿وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ﴾
ومثل شدة الخوف حالة الهرب من
عدو أو سيل أو سبع أو خوف فوات عدو يطلبه؛ فيصلي في هذه الحالة راكبا أو ماشيا،
مستقبل القبلة وغير مستقبلها، يومئ بالركوع والسجود.
ونستفيد من صلاة الخوف على هذه
الكيفيات العجيبة والتنظيم الدقيق: أهمية الصلاة في الإسلام، وأهمية صلاة الجماعة
بالذات؛ فإنهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة؛ كما نستفيد كمال هذه الشريعة
الإسلامية، وأنها شرعت لكل حالة ما يناسبها، كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمة،
وسماحة هذه الشريعة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها
والوفاة عليها؛ إنه سميع مجيب.
باب في أحكام صلاة الجمعة
سميت بذلك لجمعها الخلق
الكثيـر، ويومها أفضل أيـام الأسبوع، ففي "الصحيحين" وغيرهما: «من
أفضل أيامكم يوم الجمعة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «نحن
الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا
يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع»..
وروى مسلم عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: «أضل
الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء
الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة»..
شرع اجتماع المسلمين فيه
لتنبيههم على عظم نعمة الله عليهم، وشرعت فيه الخطبة لتذكيرهم بتلك النعمة، وحثهم
على شكرها، وشرعت فيه صلاة الجمعة في وسط النهار، ليتم الاجتماع في مسجد واحد.
وأمر الله المؤمنين بحضور ذلك
الاجتماع واستماع الخطبة وإقامة تلك الصلاة، قال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾..
قال ابن القيم: "كان من هدي
النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن
غيره، وقد اختلف العلماء، هل هو أفضل أم يوم عرفة؛ على قولين، هما وجهان لأصحاب
الشافعي، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل)، و
﴿هَلْ
أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ إلى أن قال:
"وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين
السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها؛ فإنهما اشتملتا على
خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكان في قراءتهما في
هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعا، ليست مقصودة حتى يقصد
المصلي قراءتها حيث اتفقت (يعني: من أي سورة)"..
ومن خصائص يوم الجمعة استحباب
كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: «أكثروا
من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة» رواه البيهقي.
ومن أعظم خصائص يوم الجمعة صلاة
الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين، من تركها تهاونا بها،
طبع الله على قلبه.
ومن خصائص يوم الجمعة الأمر
بالاغتسال فيه، وهو سنة مؤكدة، ومن العلماء من يوجبه مطلقا، ومنهم يوجبه في حق من
به رائحة يحتاج إلى إزالتها.
ومن خصائص يوم الجمعة استحباب
التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
ومن خصائص هذا اليوم؛ استحباب
التبكير للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، والاشتغال بالصلاة النافلة والذكر
والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة، ووجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها، فإن لم ينصت
للخطبة، كان لاغيا، ومن لغا، فلا جمعة له، وتحريم الكلام وقت الخطبة؛ ففي "المسند"
مرفوعا:«والذي
يقول لصاحبه: أنصت، فلا جمعة له».
ومن خصائص يوم الجمعة قراءة
سورة الكهف في يومها؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من
قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء به يوم
القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين»
رواه الحاكم والبيهقي.
ومن خصائص يوم الجمعة أن فيه
ساعة الإجابة؛ ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة:
«إن في
الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه
(وقال بيده؛ يقللها)».
ومن خصائص يوم الجمعة أن فيه
الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله جمع
بالرسالة وتذكير العباد. وخصائص هذا اليوم كثيرة، ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه
"زاد المعاد"، فأوصلها إلى ثلاث وثلاثين ومئة.
ومع هذا؛ يتساهل كثير من الناس
في حق هذا اليوم، فلا يكون له مزية عندهم على غيره من الأيام، والبعض الآخر يجعل
هذا اليوم وقتا للكسل والنوم، والبعض يضيعه باللهو واللعب والغفلة عن ذكر الله، حتى
إنه لينقص عدد المصلين في المساجد في فجر ذلك اليوم نقصا ملحوظا؛ فلا حول ولا قوة
إلا بالله.