صفحة جديدة 2
والأفضل للمسلم أن يصلي في المسجد الذي لا تقام فيه صلاة
الجماعة إلا بحضوره؛ لأنه يحصل بذلك على ثواب عمارة المسجد؛ فقد قال الله تعالى:﴿إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
ثم الأفضل بعد ذلك صلاة الجماعة
في المسجد الذي يكون أكثر جماعة من غيره، لأنه أعظم أجرا، لقوله صلى الله عليه
وسلم:«صلاة
الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما
كان أكثر، فهو أحب إلى الله» رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان؛ ففيه أن ما كثر جمعه فهو
-138- أفضل؛ لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة، ولشمول الدعاء ورجاء
الإجابة، لا سيما إذا كان فيهم من العلماء وأهل الصلاح..
قال تعالى:
﴿فِيهِ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾
ففيه استحباب الصلاة مع
الجماعة الصالحين المحافظين على الطهارة لإسباغ الوضوء. ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة
في المسجد القديم؛ لسبق الطاعة فيه على المسجد الجديد. ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في
المسجد الأبعد عنه مسافة، فهو أفضل من الصلاة في المسجد القريب..
لقوله صلى الله عليه وسلم:«أعظم
الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء،
وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة؛ إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها
خطيئة، حتى يدخل المسجد
»..
ولقوله عليه الصلاة والسلام:«يا
بني سلمة دياركم تكتب آثاركم»
وبعض العلماء يرى أن أقرب المسجدين أولى، لأن له جوارا، فكان أحق بصلاته فيه..
ولأنه قد ورد:«لا
صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ولأن تعدي المسجد
القريب إلى البعيد قد يحدث عند جيرانه استغرابا، ولعل هذا القول أولى؛ لأن تخطي
المسجد الذي يليه إلى غيره ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإحراج لإمامه، بحيث
يساء به الظن.
ومن أحكام صلاة الجماعة أنه
يحرم أن يؤم الجماعة في المسجد أحد غير إمامه الراتب، إلا بإذنه أو عذره..
ففي "صحيح مسلم" وغيره:«ولا
يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه».
قال النووي: "معناه أن صاحب
البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، ولأن في ذلك إساءة إلى إمام المسجد
الراتب، وتنفيرا عنه، وتفريقا بين المسلمين".
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا
صلى بجماعة المسجد غير إمامه الراتب بدون إذنه أو عذر شرعي يسوغ ذلك، أنها لا تصح
صلاتهم، مما يدل على خطورة هذه المسألة، فلا ينبغي التساهل في شأنها، ويجب على
جماعة المسلمين أن يراعوا حق إمامهم، ولا يتعدوا عليه في صلاحيته، كما يجب على إمام
المسجد أن يحترم حقا المأمومين ولا يحرجهم.
وهكذا؛ كل يراعي حق الآخر، حتى
يحصل الوئام والتآلف بين الإمام والمأمومين، فإن تأخر الإمام عن الحضور وضاق الوقت،
صلوا، لفعل أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما حين غاب النبي صلى
الله عليه وسلم في ذهابه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فصلى أبو بكر رضي الله
عنه، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس لما تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة
أخرى، وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة، ثم أتم صلاته وقال:
"أحسنتم" ومن أحكام صلاة الجماعة أن من سبق له أن صلى، ثم حضر إقامة الصلاة في
المسجد؛ سن له أن يصلي مع الجماعة تلك الصلاة التي أقيمت..
لحديث أبي ذر:«صل
الصلاة لوقتها، فإن أقيمت وأنت في المسجد؛ فصل، ولا تقل: إني صليت، فلا أصلي»
رواه مسلم.
وتكون هذه الصلاة في حقه نافلة؛
كما جاء في الحديث الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين أمرهما النبي
صلى الله عليه وسلم بالإعادة: «فإنهما
لكما نافلة» ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس
من المصلين.
ومن أحكام صلاة الجماعة، أنها
إذا أقيمت الصلاة - أي: إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة -؛ لم يجز الشروع في صلاة
نافلة لا راتبة ولا تحية مسجد ولا غيرها، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا
أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة»
رواه مسلم.
وفي رواية:«فلا
صلاة إلا التي أقيمت» فلا تنعقد صلاة النافلة التي أحرم فيها بعد إقامة الفريضة التي
يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له.
قال الإمام النووي رحمه الله:
"والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على
مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالناقلة، ولأنه نهى صلى الله عليه وسلم عن
الاختلاف على الأئمة، ولحصول تكبيرة الإحرام، ولا تحصل فضيلتها المنصوصة إلا بشهود
تحريم الإمام".
وإن أقيمت الصلاة وهو في صلاة
نافلة قد أحرم بها من قبل؛ أتمها خفيفة، ولا يقطعها؛ إلا أن يخشى فوات الجماعة؛
لقول الله تعالى:﴿وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فإن خشي فوت
الجماعة، قطع النافلة؛ لأن الفرض أهم.
باب في الأحكام التي تتعلق بالمسبوق
الصحيح من قولي العلماء أن
المسبوق لا يدرك صلاة الجماعة؛ إلا بإدراك ركعة، فإن أدرك أقل من ذلك؛ لم يكن مدركا
للجماعة، لكن يدخل مع الإمام فيما أدرك، وله بنيته أجر الجماعة، كما إذا وجدهم قد
صلوا؛ فإن له بنيته أجر من صلى في جماعة؛ كما وردت به الأحاديث؛ أن من نوى الخير
ولم يتمكن من فعله؛ كتب له مثل أجر من فعله.
وتدرك الركعة بإدراك الركوع على
الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من
أدرك الركوع، فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود، ولما في "الصحيح" من حديث أبي بكرة، وقد جاء والنبي
صلى الله عليه وسلم في الركوع، فركع دون الصف، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم
بإعادة الركعة، فدل على الاجتراء بها.
فإذا أدرك الإمام راكعا فإنه
يكبر تكبيرة الإحرام قائما، ثم يركع معه بتكبيرة ثانية، هذا هو الأفضل، وإن اقتصر
على تكبيرة الإحرام؛ أجزأته عن تكبيرة الركوع؛ فتكبيرة الإحرام، لا بد من الإتيان
بها وهو قائم، وأما تكبيرة الركوع؛ فمن الأفضل الإتيان بها بعدها. وإذا وجد المسبوق
الإمام على أي حال من الصلاة؛ دخل معه؛ لحديث أبي هريرة وغيره: «إذا
جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئا» فإذا سلم الإمام التسليمة الثانية؛ قام المسبوق ليأتي بما فاته من
الصلاة، ولا يقوم قبل التسليمة الثانية. وما أدرك المسبوق مع إمامه؛ فهو أول صلاته
على القول الصحيح، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام: «وما
فاتكم؛ فأتموا» وهو رواية الجمهور للحديث، وإتمام الشيء لا يأتي إلا بعد تقدم
أوله، ورواية: «وما
فاتكم؛ فاقضوا»
لا تخالف رواية: "فأتموا" لأن القضاء يراد به الفعل، لقوله تعالى:
﴿فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ وقوله تعالى:
﴿فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ فيحمل قوله:
"فاقضوا" على الأداء والفراغ...، والله أعلم.
وإذا كانت الصلاة جهرية؛ وجب
على المأموم أن يستمع لقراءة الإمام، ولا يجوز له أن يقرأ وإمامه يقرأ، لا سورة
الفاتحة ولا غيرها؛ لقوله تعالى:
﴿وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
قال الإمام أحمد رحمه الله:
"أجمعوا على أن هذه الآية في الصلاة". فلو أن القراءة تجب على المأموم؛ لما أمر
بتركها لسنة الاستماع، ولأنه إذا انشغل المأموم بالقراءة؛ لم يكن لجهر الإمام
فائدة، ولأن تأمين المأموم على قراءة الإمام ينزل منزلة قراءتها؛ فقد قال تعالى
لموسى وهارون:
﴿قَدْ
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ وقد دعا موسى،
فقال: ﴿رَبَّنَا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا﴾ الآية، وأمن هارون على
دعائه، فنزل تأمينه منزلة من دعا، فقال تعالى: ﴿قَدْ
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ فدل على أن من
أمن على دعاء؛ فكأنما قاله.
أما إذا كانت الصلاة سرية، أو
كان المأموم لا يسمع الإمام؛ فإنه يقرأ الفاتحة في هذه الحال، وبهذا تجتمع الأدلة؛
أي: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية... والله أعلم.
ومن أحكام صلاة الجماعة المهمة
وجوب اقتداء المأموم بالإمام بالمتابعة التامة له، وتحريم مسابقته؛ لأن المأموم
متبع لإمامه، مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته:
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أما
يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته
صورة حمار؟!»
متفق عليه، فمن تقدم على إمامه؛ كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، ومن فعل
ذلك؛ استحق العقوبة.
وفي الحديث الصحيح: «إنما
جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد».
وروى الإمام أحمد وأبو داود: «إنما
جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع؛ فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد؛ فاسجدوا،
ولا تسجدوا حتى يسجد».
وكان الصحابة خلف النبي صلى
الله عليه وسلم لا يحني أحد منهم ظهره حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا،
ثم يقعون سجودا بعده. و«لما رأى عمر رضي الله عنه رجلا يسابق الإمام؛ ضربه، وقال:
لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت » وهذا شيء يتساءل فيه أو يتجاهله بعض المصلين،
فيسابقون الإمام، ويتعرضون للوعيد الشديد، بل يخشى أن لا تصح صلاتهم.
وروى مسلم عن النبي صلى الله
عليه وسلم، أنه قال: «لا
تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"مسابقة الإمام حرام باتفاق الأئمة، لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع
قبله، ولا يسجد قبله، وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن
ذلك".
ومسابقة الإمام تلاعب من
الشيطان ببعض المصلين حتى يخل بصلاته، وإلا؛ فماذا يستفيد الذي يسابق الإمام؛ لأنه
لن يخرج من الصلاة إلا بعد سلام الإمام؟!
فيجب على المسلم أن يتنبه لذلك،
وأن يكون ملتزما لأحكام الائتمام والاقتداء.
نسأل الله للجميع الفقه في دينه
والبصيرة في أحكامه، إنه سميع مجيب؛ فإنه من يرد الله به خيرا؛ يفقهه في الدين.