HTML Editor - Full Version
وكذلك قوله {فاعبده وتوكّل عليه} فان التّوكّل والاستعانة هي من عبادة الله لكن خُصّت بالذّكر ليقصدها المُتَعبِّد بخصوصها فإنّها هى العون على سائر أنواع العبادة إذ هو سبحانه لا يٌعبد إلا بمعونته إذا تبين هذا فكمال المخلوق فى تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أنّ المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أنّ الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق واضلّهم قال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} إلى قوله {وهم من خشيته مشفقون} وقال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدَّا} الى قوله {إنْ كلّ من فى السّموات والأرض إلا آتي الرّحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدّا وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا} وقال تعالى فى المسيح {إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى اسرائيل} وقال تعالى {وله من فى السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى {لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله والملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا} الى قوله {ولا يجدون لهم دون وليا ولا نصيرا} وقال تعالى {وقال ربكم ادعونى استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} وقال تعالى {واذكر ربك فى نفس تضرعا وخيفة} الى قوله {ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحون وله يسجدون} .
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة وذمّ من خرج عن ذلك متعدد فى القرآن وقد أخبر أنّه أرسل جميع الرّسل بذلك فقال تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون} وقال {ولقد بعثنا فى كل أمّة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى لبنى اسرائيل { يا عبادى الذين آمنوا ان أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون} وقال {يا أيّها الناس اعبدوا ربكّم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} وقال {وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون} وقال تعالى {قل إنّي أُمِرْتُ أن أعبد الله مخلصا له الدّين وأُمرت لأن أكون أوّل المسلمين * قل إنّي أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدّعاء الى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليم السلام اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وفى المسند عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال بُعِثتُ بالسيف بين يدى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له وجُعِلَ رزقي تحت ظِلّ رُمحي وجَعل الذِّلةَ والصَّغار على من خالف امري".
وقد بيّن أن عباده هم الذين ينجون من السّيئات قال الشيطان {فبما اغويتني لأُزيننّ لهم فى الأرض ولأُغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم الُمخلصين} قال تعالى {إنّ عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقال {فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين} وقال فى حق يوسف {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنّه من عبادنا المخلصين} وقال {سبحان الله عما يصفون * إلاّ عباد الله المخلصين} وقال {إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون}
وبها نعت كل من اصطفى من خلقه كقوله {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الايدى والأبصار* إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار* وإنّهم عندنا لمن المصطفين الاخيار} وقوله {واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب} وقال عن سليمان {نعم العبد انه أواب} وعن أيّوب {نعم العبد} وقال {واذكر عبدنا أيّوب اذ نادى ربه} وقال عن نوح عليه السّلام {ذرية من حملنا مع نوح إنّه كان عبدا شكورا} وقال {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وقال {وأنّه لما قام عبد الله يدعوه} وقال {وإن كنتم فى ريب مما نزّلنا على عبدنا} وقال {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال {عينا يشرب بها عباد الله} وقال {وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا} ومثل هذا كثير متعدد فى القرآن.
فصـل:
في التّـفــاضُــلِ بالإيـــــمَانِ
إذا تبيّن ذلك فمعلوم أنّ هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما وهو تفاضلهم فى حقيقة الايمان وهم ينقسمون فيه إلى عامّ وخاصّ ولهذا كانت ربوبية الربّ لهم فيها عموم وخصوص ولهذا كان الشّرك فى هذه الامة أخفى من دبيب النمل وفى الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: "تعِسَ عبد الدّرهم تعِس عبد الدّينار تعِس عبد القطيفة تعِس عبد الخميصة تعِسَ وانْـتَـكَسْ وإذا شِيكَ فلا انْتـَـقشْ إنْ أُعطِيَ رَضِيَ وإنْ مُنِعَ سَخِط.
فسمّاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبر وهو قوله تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش والنقش اخراج الشوكة من الرجل والمنقاش ما يخرج به الشوكة وهذه حال من اذا اصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بانه اذا اعطى رضى واذا منع خط كما قال تعالى ومنهم من يلمزك فى الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون فراضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة او بصورة ونحو ذلك من اهواء نفسه ان حصل له رضي وان لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له اذا الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ولهذا يقال:
العَبْدُ حرُّ ما قَنَعْ * والحرُّ عَبْدُُ ما طَمِعْ.
وقال القائل: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أنّي قنعت لكنت حرّا.
ويقال: الطّمَعُ غلّ في العُنق قيد في الرّجل فاذا زال الغلّ من العنق زال القيد من الرّجل ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال الطمع فقر واليأس غنى وإنّ أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه وهذا أمر يجده الانسان من نفسه فإنّ الأمر الذى ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به ولا يبقى قلبه فقيرا اليه ولا الى من يفعله واما اذا طمع فى امر من الامور ورجاه تعلق قلبه به فصار فقيرا الى حصوله والى من يظن انه سبب فى حصوله وهذا فى المال والجاه والصور وغير ذلك قال الخليل صلى الله عليه وسلم فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له اليه ترجعون فالعبد لا بد له من الرزق وهو محتاج الى ذلك اذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا اليه وان طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا اليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرّمة فى الاصل وانما أُبيحت للضّرورة وفى النهي عنها أحاديث كثيرة في الصّحاح والسنن والمسانيد كقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتى يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم وقوله من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا او خموشا او كدوحا فى وجهه وقوله لا تحل المسألة الا لذى غرم مفظع او دمع موجع او فقر مدقع هذا المعنى فى الصحيح وفيه أيضا لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه او منعوه وقال ما أتاك من هذا المال وانت غير سائل ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب وقال في الحديث الصحيح من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ما أُعطيَ أحد عطاء خيرا وأوسع من الصّبر وأوصى خواصّ أصحابه ان لا يسألوا الناس شيئا وفى المسند أنّ أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إيّاه ويقول أنّ خليلي أمرني أن لا اسأل الناس شيئا وفى صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك ان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بايعه في طائفة وأسرّ اليهم كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئا فكان بعض أولئك النّفر يسقط السّوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد ناولني إيّاه.