صفحة جديدة 16
471 – أما الصحابة فلم
يعرف فيهم – ولله الحمد – من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف
فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم
يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق، ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى
مات كما بين هذا في غير هذا الموضع.
472 – والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو
جني تصور بصورة إنسي أو إنسي كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكاً مع قوله أنا الخضر، فإن
الملك لا يكذب وإنما يكذب الجني والإنسي.
وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنياً مما يطول
ذكره في هذا الموضع.
473 – وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا
التلبيس، وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها كما
فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس
وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بسط الكلام على ذلك في
مواضع.
474 – وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في
التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم،
وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف.
475 – وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في
الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم، ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم
أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق.
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد
نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب.
476 – ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي
عنهم أهل السنن كأبي داود والترمذي مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف
المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده
أجودُ من شرط أبي داود في سننه.
477 – والمقصود أن هذه / الأحاديث التي تُروى في
ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة بل الموضوعة، التي يرويها من يجمع
في الفضائل والمناقب الغث والسمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات
وفضائل العبادات وفضائل الأنبياء والصحابة وفضائل البقاع ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب
فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن
يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة.
478 – لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا
أن يروى في فضائل الأعمال مالم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب.
وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي وروي
في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة إنه
يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.
479 – وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا
بدليل شرعي، لكن إذا عُلم تحريمه وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب
جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب مالم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم
أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله.
480 – وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما
لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله أمر به في شرعنا ونهى عنه في
شرعنا.
481 – فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات
التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة
يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة.
482 – ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث
الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه.
483 - ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من
العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.
484 – والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا
يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع
من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك.
485 – وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام –
صحيح، وحسن، وضعيف – هو أبوعيسى الترمذي في جامعه.
والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم
وليس بشاذ.
486 – فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً
ويحتج به، ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث
إبراهيم الهجري ونحوهما. وهذا مبسوط في موضعه.
487 – والأحاديث التي تروى في هذا الباب – وهو
السؤال بنفس المخلوقين – هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في
أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها.
488 – مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن
هارون بن عنترة عن أبيه عن جده أن أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: إنني أتعلم القرآن ويتفلت مني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل
اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وبإبراهيم خليلك وبموسى نجيك وعيسى روحك وكلمتك وبتوارة
موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاء قضيته».
وذكر تمام الحديث.
489 – وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري
في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول ولم يَعزُه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من
كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل يوم وليلة كابن السني وأبي نُعيم.
وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز
الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء.
وقد رواه أبوالشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل
الأعمال وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة.
490 – ورواه أبوموسى المديني من حديث زيد بن
الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل.
قال أبوموسى: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن
أبيه عن جده، عن الصديق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك/ القوي، وكان بالري،
وأبوه وجده ثقتان.
491 – قلت: عبد الملك بن هارون بن عنترة من
المعروفين بالكذب، قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال السعدي دجال كذاب. وقال أبوحاتم
بن حبان: يضع الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد
بن حنبل: ضعيف. وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد. وقال الدارقطني: هو
وأبوه ضعيفان. وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني
روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وأخرجه أبوالفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات.
وقول الحافظ أبي موسى:
«هو
منقطع» يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده
منقطع.
492 – وقد روى عبد الملك – هذا الحديث الآخر
المناسب لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتي ذكره، وخالف فيه عامة ما نقله
المفسرون وأهل السير وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه
متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك.
493 – ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعاً وموقوفاً عليه
«أنه
لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت
محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم
العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب
الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقتك».
وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد
الله بن مسلم الفهري عن إسماعيل بن مسلمة عنه. وقال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته
لعبد الرحمن في هذا الكتاب. وقال الحاكم: هو صحيح.
ورواه الشيخ أبوبكر الآجري في كتاب الشريعة
موقوفاً على عمر من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم موقوفاً.
494 – ورواه الآجري أيضاً من طريق آخر، من حديث
عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه موقوفاً عليه، وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر،
حدثنا أبومروان العثماني، حدثني أبوعثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن
أبيه أنه قال:
«من الكلمات التي
تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك. قال الله تعالى: وما
يدريك ما محمد؟ قال: يارب رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك: لا إله إلا الله محمد
رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك».
495 – قلت: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر
عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن
الحمل فيها عليه.
496 – قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف
باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي، والدارقطني
وغيرهم، وقال أبوحاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من
روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.
497 – وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث
وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث
وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث.
كما
صحح حديث زريب بن ثرملا الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما
بين ذلك البيهقي وابن الجوزي
وغيرهما.
وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي
عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة.
ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه.
498 – ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا
يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في
المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه. وليس فيمن يصحح
الحديث أضعف من تصحيحه.
499 – بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه
فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً.
وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن
منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم
أتقن في هذا الباب من الحاكم.
500 – ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح
مسلم. ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا
الباب. والبخاري / من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي
أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه.
501 – ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً
اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه
إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه.
502 – ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما
صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في
عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه.
503 – كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين.
504 – والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم
يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري
وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
505 – والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها
أنه صلاها يوم مات إبراهيم. ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان،
ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.
506 – وكذلك روى مسلم:
«خلق
الله التربة يوم السبت».
ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين
والبخاري وغيرهما فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة
والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم
وكان خلقه يوم الجمعة.
وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في
الأيام السبعة.
وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم
الأحد.
507 – وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من
النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بأم حبيبة وأن يتخذ معاوية كاتباً، وغلّطه في
ذلك طائفة من الحفاظ.
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة
الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله
عليه وسلم قالها. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر.
508 – وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من
المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال: وحكى
أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما:
«أن
آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي – قال: ويروى تقبل توبتي – فقال
الله له: من أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً: لا إله إلا
الله محمد رسول الله.
قال: ويروى: محمد عبدي ورسولي، فعلمت أنه أكرم
خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له».
509 – ومثل هذا لايجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا
يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا
يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لو نقلها مثل كعب
الأحبار ووهب ابن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عن أهل
الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا
ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند
المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطراباً يعرف [به] أنه لم
يحفظ ذلك، ولم ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على
نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في كتب المبتدأ، وهذه لو
كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن
شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور.
510 – لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه
شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع، لمن قبلنا من نقل
ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه،
فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين.