صفحة جديدة 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا
الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق
ليُظهرَه على الدين كله وكفى بالله شهيداً. أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً،
وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصرَّ به من العمى،
وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فبلّغ
الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبد ربه حتى أتاه
اليقين من ربه. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ففرّق به بين الحق والباطل،
والهدي والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه
وأعدائه.
2 - فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما
شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين: الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن
به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمانُ به ومتابعته هو سبيل الله وهو
دين الله، وهو عبادة الله وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله وهو الوسيلة التي
أمر الله بها عباده في قوله تعالى (5: 35):
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾.
فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه.
3 - وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال، باطناً
وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده ومغيبه، لا
يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة
عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه
وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته.
4 - وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به
الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله.
وقد قال تعالى (33: 69) عن موسى:
﴿وَكَانَ
عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ وقال (3: 45) عن
المسيح: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ﴾.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته
ودعاؤه إنما ينتفع بهما من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل
إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما
يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى
آله وسلم تسليما.
5 - ولفظ (التوسل) في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى. والتوسل
بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا
تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة.
6 - ولهذا نُهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن
الاستغفار للمنافقين وقيل له (63: 6):
﴿سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ﴾. ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال
تعالى (9: 37): ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ
فِي الْكُفْرِ﴾، فإذا كان في الكفار من خف كفره
بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه، لا في إسقاط العذاب
بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت: يارسول الله فهل
نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «نعم
هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»،
وفي لفظ: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال: «نعم،
وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح»،
وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده عمه أبوطالب فقال:
«لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في
ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه»
وقال: «إن أهون أهل النار عذاباً أبوطالب، وهو
منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه».
7 - وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان صلى
الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول:
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وروى أنه دعا بذلك: أن اغفر لهم فلا تعجّل عليهم العذاب في الدنيا، قال تعالى (35:
45): ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا
كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وأيضاً فقد يدعو لبعض الكفار
بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله،
وكما دعا لدَوْس فقال: «اللهم اهد دوساً وائت
بهم» فهداهم الله.
8 - وكما روى أبوداود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم،
فاستسقى لهم، وكان ذلك إحساناً منه إليهم يتألف به قلوبهم، كما كان يتألفهم بغير
ذلك.
9 - وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند
الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء
الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم توجب
سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمناً بالله ورسوله
مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان
من أهل النار قطعاً.
10 - وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع،
فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو
كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم
الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى (14: 41)
عنه:
﴿رَبّنا
اغْفرْ لي وَلوالدَيّ وللمُؤمنينَ يومَ يَقُومُ الحساب﴾.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم، وأراد
بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى (9: 113):
﴿ما كان للنّبِيّ والذينَ
آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أولى قُرْبى مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيّنَ أنهم لهُمْ أصْحَابُ الجحيم﴾ ثم
ذكر الله عذر إبراهيم فقال (9: 114 - 115): ﴿وما
كان اسْتغْفارُ إبْراهيمَ لأبيهِ إلاّ عنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا
تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوٌ للهِ تَبَرّأ منْهُ إنَّ إبْراهيمَ لأوّاهٌ حليمٌ* وما
كانَ اللهُ لِيُضلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيّن لهُمْ ما يَتّقونَ﴾.
11 - وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
«يلقى
إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له ابراهيم: ألم أقل
لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول ابراهيم: يارب أنت وعدتني أن
لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرّمت
الجنة على الكافرين، ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ
بقوائمه فيلقى في النار». فهذا لما مات مشركًا
لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين (60: 4 - 5):
﴿قد كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في
إبْراهيمَ وَالذينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لقَوْمهمْ إنّا بُرءَآؤُاْ منْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُون الله كَفْرنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتَّى تُؤمنُوا بالله وَحْدَهُ إلاّ قَوْلَ
إبراهيمَ لأبيه لأسْتَغْفرَنَّ لَكَ وما أمْلكُ لكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيءٍ رَبّنا
عَلَيْكَ تَوَكَّلنا وإليْكَ أَنَبْنا وإليْكَ المَصيرُ* رَبّنا لا تجْعَلْنا
فِتْنَةً للّذينَ كَفَرُا واغْفرْ لَنا رَبّنا إنّك أنْتَ الْعَزيزُ الحكِيمُ﴾
فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم
لأبيه: «لأستغفرنَّ لك»
فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
12 - وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«استأذنت
ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي».
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم
قال:
«استأذنت
ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا
القبور فإنها تذكر الموت».
13 - وثبت عن أنس في الصحيح أن رجلاً قال: يارسول الله أين أبي؟ قال:
«في النار».
فلما قفّى دعاه فقال: «إني أبي وأباك في النار».
14 - وثبت أيضًا في الصحيح عن أبي هريرة: لما أنزلت هذه الآية (26: 214):
﴿وَأنْذرْ
عَشيرتَكَ الأَقْرَبينَ﴾ دعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال: «يا
بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من
النار، يا بني عَبْد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم
من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب انقذوا أنفسكم
من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن
لكم رحما سأبُلُّها ببلالها».
وفي رواية عنه:
«يا
معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد
المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله
شيئاً، ياصفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئاً، يافاطمة بنت رسول
الله، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً».
وعن عائشة لما نزلت:
﴿وَأنذرْ
عَشيرَتَكَ الأقْرَبين﴾ قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: «يافاطمة بنت محمد، ياصفية بنت
عبد المطلب، [يا بني عبد المطلب]، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ماشئتم».
15 - وعن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات
يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال:
«لا
ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يارسول الله، أغثني.
فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته
فرس له حمحمة فيقول: يارسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا
ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يارسول الله أغثني.
فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته
رقاع تخفق فيقول يارسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين
أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يارسول الله أغثني، فأقول: لا أملك
لك شيئاً، قد أبلغتك». أخرجاه في الصحيحين.
وزاد مسلم
«لا
ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يارسول الله، أغثني،
فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك».
وفي البخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة
يحملها على رقبته لها يُعار فيقول يامحمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولا
يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول لا أملك لك شيئاً،
قد بلغت».
16 - وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئاً كقول إبراهيم
لأبيه (60:4):
﴿لأستَغْفرَن
لَكَ ومَا أمْلكُ لكَ منَ الله منْ شَيءٍ﴾.