HTML Editor - Full Version
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي:
وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ.
وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ،
وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ.
وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا؛
فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ؛
كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ الَّتِي تردد فِي الْبَدَنِ.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّهَا الْحَيَاةُ أَوْ الْمِزَاجُ أَوْ نَفْسُ الْبَدَنِ.
وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ..
فَيَقُولُونَ: لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ، وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ، وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ، وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ، وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ.
وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ.
وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً.
وَرُبَّمَا قَالُوا: لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا، مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ.. فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا،
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
قَالُوا: بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا..
وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ؛
فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ وَاضْطِرَابُ النفاة.
وَالْمُثْبِتَةِ فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ:
أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ - لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ..
وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ..
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ:
فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ..
فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالرُّوحُ لَيْسَتْ جِسْمًا؛
وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الرُّوحُ وَالْجِسْمُ؛
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾،
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ؛
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ..
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ: إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ؛
فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الرُّوحُ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا بَصَرُ الْمَيِّتِ - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ» - كَانَتْ الرُّوحُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً، تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ تَكْيِيفِهَا وَتَحْدِيدِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا.
وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَا.
فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ.. الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى:
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ،
فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ: «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ».
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: لَيْسَ بِشَيْءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالًا، وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ.
فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ؛
كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾..
إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾؛
فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ، إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾؛ فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا.
وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ.
فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً.
فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا، لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ..
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا.
وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ: وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ..
وَلِهَذَا قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ.
وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ..
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ:
- مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ،
- وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ،
فَمَنْ قَالَ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ.
فَإِنْ قَالَ: الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ قِيلَ لَهُ: هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ.
وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا..
فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ..
وَأَيْضًا فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا،
فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ: كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا.
وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ..
وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ..
فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛
وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ: لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ.