وبعد: قال الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [الحجرات:11]. قسَّم الله تعالى خلقه إلى تائب وظالم، فمن لم يكن من التائبين فهو من الظالمين.
وقد دعا الله تعالى جميع خلقه إلى التوبة، فدعا إليها المؤمنين الصادقين فقال: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ودعا إليها المسرفين على أنفسهم فقال: قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الزمر:53]، ودعا إليها المنافقين والكافرين قال : «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لا يغلق إلا عند حشرجة الموت وعند طلوع الشمس من مغربها، قال تعالى: وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلاْنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ[النساء:18]، فسوّى سبحانه بين الذين يتوبون عند الموت وبين الذين يموتون بغير توبة، وقال : «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
قال الحسن البصري: "يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت" أي: فوت التوبة.
وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـٰنِهَا خَيْرًا[الأنعام:158]، والمراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها كما جاء في حديث رواه مسلم.
أمرنا الله تعالى بالتوبة النصوح فقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ [التحريم:8].
والتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش ونقص، وهي التوبة التي استوفت شروط قبولها، وشروط قبول التوبة ستة: الندم على ما فات، الإقلاع عن الذنب، العزم على عدم العودة إليه، أن تقع في زمن قبولها أي: قبل الغرغرة وقبل طلوع الشمس من مغربها، أن تكون خالصة لله تعالى، أن يرد الحقوق إلى أصحابها إذا كان المعصية مظالم للعباد.
توبة العبد إلى الله محفوفة بتوبتين من الله عز وجل: توبة قبلها وهي التوفيق إلى التوبة، وتوبة بعدها وهي قبول التوبة، قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ [التوبة:118].
من مداخل الشيطان العظيمة أنه يخوِّف العبد من التوبة ويقول له: كيف تتوب وأنت ربما تذنب مرة أخرى؟! أجِّل التوبة إلى أن تجرب نفسك وتتأكد من كونك لن تعود. قال رجل للحسن البصري: أما يستحي أحدنا يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب؟! فقال: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار".
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : «ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتّنا توابًا نسيا إذا ذُكّر ذَكَرَ» رواه الطبراني وهو في صحيح الجامع (5735).
تأخير التوبة ذنب تجب التوبة منه، والذي يؤخر التوبة مثله كمثل شاب قوي أمام بابه شجرة ضعيفة تؤذيه في دخوله وخروجه وهو يسوف قطعها يقول: غدًا وبعد غد، وكلما مر يوم رسخت جذور الشجرة وقويت ووهن عظمه وضعف، حتى إذا انسدّ عليه الطريق حاول قلعها فلم يستطع.
للتوبة المقبولة علامات، منها أن يكون حاله بعد التوبة خيرًا من حاله قبلها من جهة إقباله على الطاعة واجتنابه للمعصية، ومنها انكسار القلب وشدة الندم، قال بعض السلف: "رب معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا".
أيها المسلمون، لقد كان النبي وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة.
نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وأن يغفر لنا ويرحمنا، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الأعراف:23].
|