الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيها المسلمون: إن الله سبحانه هو الحكيم لا يشرع لعباده تشريعاً إلا وفيه حكمٌ بالغة تعود عليهم بالسعادة في الدنيا والآخرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وقد شرع سبحانه لعباده صوم شهر رمضان لحكم عظيمة منها:
1- الصوم تزكية للنفس وعلاج لها من البطر والأشر، وذلك أن النفس البشرية بطبيعتها يصيبها فخر وخيلاء وطغيان إذا كانت كلما اشتهت شيئاً حصلت عليه، والصوم يكسر النفس ويشعرها بضعفها وعجزها وحاجتها إلى خالقها ورازقها الذي يطعمها ويسقيها، وإذا مرضت فهو يشفيها وبذلك يجاهد المسلم نفسه وينهاها عن الهوى قال تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات: 37-41].
فبالصيام يملك المسلم زمام نفسه ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها ويتعود على ألا يطلق لنفسه العنان فتقوده هي إلى ما فيه هلاكه.
2- الصوم يُضيّق مجاري الشيطان التي يجري بها داخل نفس الإنسان، فعن أنس وصفية رضي الله عنهما أن النبي قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»[رواه البخاري ومسلم]. فيسكن الصيام وساوس الشيطان وتنكسر حدة الشهوة والغضب، فلا يجد الشيطان مدخلاً يدخل منه إلى قلب المؤمن، بالإضافة إلى تصفيد الشياطين بالسلاسل في رمضان، فإذا جرّب المسلم حلاوة الصلة بالرحمن والبعد عن تزيين الشيطان فإنه سيحرص بإذن الله بعد رمضان على أن يكون من عباد الله المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم سلطان قال تعالى: قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص:82-83].
3- الصوم تخلية للقلب من الشواغل الدنيوية وإعانة له على التذكر والتفكر، وكانت العرب تقول: (إذا امتلأت المعدة خمدت الفكرة) وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال : «ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه»[رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني صحيح الجامع 5674].
4- الصوم عبادة يتقرب فيها العبد إلى ربه بترك محبوباته من طعام وشراب ونكاح، فيظهر بذلك صدق إيمانه وكمال عبوديته لله وقوة محبته لله سبحانه، ورجاؤه ما عنده فإن العبد لا يترك محبوباً له إلا لما هو أعظم عنده منه.
ولما علم المؤمن أن رضى الله في الصيام بترك العبد شهواته المجبول على حبها قدم رضى مولاه على شهوات نفسه.
5- الصوم سبب للتقوى وهي فعل الأوامر وترك النواهي، فالعبد كما هو مأمور بالصوم عن الطعام والشراب فهو مأمور كذلك بالصوم عن جميع المعاصي في رمضان تهيئة لتركها كذلك بعد رمضان قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
وكما بدأ سبحانه آيات الصيام بالتقوى ختمها بالتقوى فقال: كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون[البقرة:187]. وعن أبي هريرة قال : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[رواه البخاري]. ولهذا فالصائم كلما همّ بمعصية تذكر أنه صائم فامتنع منها.
6- الصوم تدريب عظيم على الإخلاص لله تعالى لأن الصائم يكون في بيته وأمامه الطعام الشهي والشراب البارد وهو في شدة الجوع والظمأ، ولا أحد يطلع عليه إلا الله سبحانه، ومع ذلك فالصائم يترك الطعام والشراب، ويتحمل الجوع والعطش خوفاً من الله تعالى ومراقبة له وحده، فإذا تدبر المسلم هذا المعنى فإنه سيفعل ذلك في جميع المعاصي، إذا خلا بها تذكر أن الله تعالى يراه، وقال لنفسه: كما امتنعت من المعصية في رمضان خوفاً من الله وحده، فكذلك في غير رمضان سأجعل السر كالعلانية.
وإذا خلوت بظلمة فـي ريبـة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
7- الصوم تدريب على الحلم وكظم الغيظ وكف الأذى ففي حديث أبي هريرة عن النبي قال: «والصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم»[رواه البخاري ومسلم].
8- الصوم مظهر لوحدة المسلمين واجتماع كلمتهم لأنه شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام فيرى الناس المسلمين وقد أمسكوا عن المفطرات في وقت واحد وأفطروا في وقت واحد.
9- رمضان شهر شكر لله سبحانه لأن الصائم يحس بقدر النعم التي حرم منها في وقت الصيام، والإنسان عادة لا يشعر بقيمة النعمة إلا إذا فقدها أو خالط من فقدها فيؤدي هذا إلى حمد الله تعالى وشكره.
10- وهو كذلك شهر الصبر لأنه صبر على طاعة الله وصبر عن معصيته وصبر على المصائب وهي ألم الجوع والعطش، وهذه أنواع الصبر الثلاثة تجتمع كلها في شهر رمضان.
11- رمضان شهر الجود والكرم لأن الصائم الغني يحس حينئذ بحاجة إخوانه الفقراء الذين يبيتون جائعين لا يجدون ما يطعمون ولا ما يطعمون به أطفالهم الذين يتضاغون من الجوع، وهؤلاء كثيرون في أنحاء العالم الإسلامي الذي تشهد كثير من بلاده حروباً طاحنة ومجاعات، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وذلك كل ليلة، فلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة»[رواه البخاري].
ومن مظاهر الجود التي دعينا إليها في رمضان تفطير الصائمين، ففي حديث زيد بن خالد أن النبي قال: «من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً»[أحمد والترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع 6415].
وأجر الصائم عظيم قال تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»[رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً].
فإذا علمت أنك تحوز أجر الصائم بالإضافة إلى أجرك حرصت على المشاركة في هذا الباب العظيم من أبواب الأجر.
12- رمضان شهر القرآن وهو فرصة عظيمة يقبل فيها المسلمون على كتاب ربهم الذي هجروه طيلة العام فيتلونه ويتدبرونه.
13- وفي رمضان يتضاعف أجر العمرة فقد قال : «عمرة في رمضان تعدل حجة معي»[رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وغيره].
14- وفي الصيام فوائد صحية وإراحة لجهاز الهضم وتخليص للجسم من رطوبات وفضلات ضارة.
فإذا تأمل المسلم هذه الحكم العظيمة علم أن شريعة الإسلام هي الشريعة الكاملة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم آمين.
|