وبعد:
أيها المسلمون!
إن شهر رمضان هو شهر القرآن، قال تعالى:
(شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ) [البقرة:185]،
أنزل الله عز وجل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وهو بيت لله حيال الكعبة، وكان هذا الإنزال جملة واحدة في ليلة القدر من رمضان، ثم أنزل الله عز وجل القرآن الكريم مُفرّقًا في ثلاث وعشرين سنة، يستمع الروح الأمين جبريل عليه السلام إلى الآيات من رب العزة سبحانه، ثم ينزل بها على قلب رسول الله .
وكانت بداية هذا النزول أيضًا في شهر رمضان في ليلة القدر لمّا نزل جبريل عليه السلام على رسول الله بالآيات الأولى من سورة العلق: (ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَـٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5].
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195].
ولأجل اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم فقد كان النبي يخصه بالإكثار من تلاوة القرآن وتدارسه، فكان يختم القرآن في كل رمضان مرة أو مرتين، قراءة على جبريل عليه السلام سوى قراءته لنفسه ، وكان يأتيه جبريل عليه السلام في كل ليلة من ليالي رمضان، فيتدارسان القرآن كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنها.
واقتدى الصحابة وسلف الأمة برسولنا الكريم ، فكانوا يختمون القرآن في رمضان مرات عديدة في الصلاة وخارج الصلاة، وكان الإمام مالك إذا دخل شهر رمضان يفر من إقراء الحديث ويتفرغ لقراءة القرآن من المصحف، وكان بعض السلف يقول عن شهر رمضان: "إنما هو لقراءة القرآن وإطعام الطعام".
أيها المسلمون!
إن القرآن الكريم هو الكتاب المنير، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصفه الذي تكلم به وأنزله إلينا بأنه الكتاب المنير؛ لأنه ينير للإنسان طريقه، وينقذه من الظلمات، وينير للمسلم قلبه، فيمتلئ سعادة ورضًا وطمأنينة، وسماه الله تعالى الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، قال تعالى: وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ [آل عمران:3، 4].
قال تعالى: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد:28]،
وقال تعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰنًا وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
أيها المسلمون!
إن هذا القرآن الكريم هو الهدى والشفاء والرحمة، فقد سماه ربنا سبحانه هدى وشفاءً ورحمة فقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]،
وقال سبحانه: وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
أيها المسلمون!
إن القرآن الكريم هو الذي يحيي قلب المسلم إذا مات، وينبهه إذا غفل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) رواه البخاري.
والقرآن الكريم هو الذي يملأ قلب المسلم رجاءً إذا أصابه يأس أو قنوط، وهو الذي يملأ قلبه حذرًا وخوفًا إذا أصابه أمن من مكر الله وعُجْب وغرور.
لقد وصف الوليد بن المغيرة ـ قبحه الله ـ وهو عدو لدود لرسول الله ، وصف هذا الكتاب لما سمعه فقال: ما هو بكلام الإنس، وما هو بكلام الجن، وإن فيه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. والفضل ما شهدت به الأعداء.
وقد تحدى الله عز وجل الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبين سبحانه أنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، فقال سبحانه:وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـٰفِرِينَ [البقرة:23، 24]،
وقال سبحانه: قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
لا يأتون بمثله في صدق أخباره، ولا في عدل شرائعه، ولا في جمال ألفاظه، ولا في جلال معانيه.
لقد رغَّب رسول الله في تلاوة كتاب الله أعظم ترغيب فقال: ((من سرّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف))رواه البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الألباني صحيح الجامع (6289).
وعن ابن مسعود أيضًا قال : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ٱلَمِ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي وصححه.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي :((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران)).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
|