صفحة جديدة 1
النَّوع التَّاسع والعِشْرُون: مَعْرفةُ الإسْنَاد العَالي والنَّازل
الإسْنَاد خصيصةٌ لهذه الأُمَّة
قال ابن حَزْم: نَقْلُ الثِّقة عن الثِّقة يبلغُ به النَّبي صلى الله عليه وسلم مع
الاتِّصال خصَّ الله به المُسلمين دونَ سائر المِلل، وأمَّا مع الإرسال والإعضال
فيُوجد في كثير من اليهود، لكن لا يقربون فيه من مُوسى عليه السلام قُرْبنا من
محمَّد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين مُوسى عليه الصلاة
والسلام أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنَّما يبلغون إلى شمعون ونحوه.
قال: وأمَّا النَّصَارى فليسَ عندهم من صِفَة هذا النَّقل إلاَّ تحريم الطَّلاق
فقط، وأمَّا النَّقل بالطَّريق المُشْتملة على كذَّاب، أو مجهول العين، فكثير في
نقل اليهود والنَّصارى.
وسُنَّة بالغةٌ مُؤكَّدةٌ، وطلبُ العُلُو فيهِ سُنَّة، ولهَذَا اسْتُحبَّت
الرِّحلةُ
[وطلب العلو فيه سُنَّة] قال أحمد ابن حنبل: طلب الإسْنَاد العالي سُنَّة عمَّن
سلف، لأنَّ أصْحَاب عبد الله كانُوا يَرْحلون من الكُوفة إلى المَدِينة،
فيتعلَّمُون من عمر، ويسمعون منهُ.
[ولهذَا اسْتُحبَّت الرِّحْلة] كما تقدَّم، قال الحاكم: ويُحتج له بحديث أنس في
الرَّجُل الَّذي أتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتانا رسولكَ، فزعمَ كذا
... الحديث. رواه مُسلم
قال: وقد رحل في طلب الإسْنَاد غير واحد من الصَّحابة، ثمَّ ساق بسنده حديث خُروج
أبي أيُّوب إلى عُقبة بن عامر يسأله عن حديث سمعه من رَسُول الله صلى الله عليه
وسلم، لم يبق أحد مِمَّن سمعه من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غير عُقبة، الحديث
في ستر المؤمن.
وهو أقْسَامٌ: أجلُّهَا: القُرْب من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بإسْنَاد صحيحٍ
نَظيفٍ.
الثَّاني: القُرْبُ من إمَام من أئمَّةِ الحديث وإن كَثُر بعدَهُ العَدَد إلى
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
الثَّالث: العُلوُّ بالنِّسبة إلى رِوَاية أحد الكُتب الخَمْسة أو غَيْرها من
المُعْتمدةِ، وهو ما كَثُرَ اعتناءُ المُتأخِّرين به، من المُوافقة، والإبْدَال
والمُسَاواة، والمُصَافحة..
فالمُوافقة: أن يَقَع لكَ حديثٌ عن شيخ مُسلم من غير جِهَتهِ بعددٍ أقلَّ من عددك
إذا رويتهُ عن مُسْلم عنه.
والبَدَلُ: أن يَقَعَ هذا العُلو عن مثل شيخ مُسْلم، وقد يُسَمَّى هذا مُوافقة
بالنِّسبة إلى شَيْخ شَيْخ مُسْلم.
والمُسَاواة في أعْصارنا: قِلَّة عدد إسْنَادك إلى الصَّحابي، أو مَنْ قَاربهُ بحيث
يقع بينكَ وبين صحابي مثلاً من العدد مِثْل ما وقعَ بين مُسْلم وبينه.
وهذا كان يُوجد قديمًا، وأمَّا الآن فلا يُوجد في حديث بعينه، بل يُوجد مطلق العدد
كما قال العِرَاقي.
فإنَّه تقدَّم أنَّ بيني وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم عشرة أنْفُس في ثلاثة
أحاديث، وقد وقع للنَّسائي حديث بينهُ وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه عشرة
أنْفُس، وذلك مُساواة لنا.
وهو ما رواه في كتاب الصَّلاة قال: أخبرنا محمَّد بن بَشَّار، أخبرنا عبد الرَّحمن،
أخبرنا زائدة، عن منصور، عن هلال، عن الرَّبيع بن خُثَيم، عن عَمرو بن مَيْمون، عن
ابن أبي ليلى، عن امْرأة، عن أبي أيُّوب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «{
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدلُ ثُلث القُرآن».
قال النَّسائي: ما أعلم في الحديث إسْنَادًا أطْول من هذا.
وفيه ستة من التَّابعين.
وقد رواه التِّرمذي(198) عن قُتيبة ومحمَّد بن بَشَّار، قالا: حدَّثنا ابن مهدي،
حدَّثنا زائدة به، وقال: حسنٌ.
والمرأة هي امرأة أبي أيُّوب، وهو عُشَاري للتِّرمذي أيضًا.
والمُصَافحة: أنْ تَقْع هذه المُسَاواة لشيخكَ، فيَكُون لكَ مُصَافحة، كأنَّك
صَافحتَ مُسْلمًا، فأخذتهُ عنهُ، فإن كَانت المُسَاواة لشَيْخ شَيْخكَ كانت
المُصَافحة لشيخكَ، وإن كانت المُسَاواة لشَيْخِ شيخ شيخكَ فالمُصَافحة لشَيْخ
شيخكَ، وهذا العُلو تابعٌ لِنُزولٍ، فَلَوْلا نُزول مُسْلم وشِبهه لَمْ تَعْلُ
أنتَ.
الرَّابعُ: العُلو بتقدُّم وفَاةِ الرَّاوي، فمَا أرْويهِ (عن ثَلاثةٍ عن البَيْهقي
عن الحَاكم) أعلاهما (أعلى مما) أن
أرْويهِ (عن ثَلاثةٍ عن أبي بَكْر بن خَلَف عن الحَاكم)، لتَقَدُّم وفَاة البَيْهقي
عن ابن خَلَفٍ.
وأمَّا عُلوَّه بتقدُّم وفَاةِ شَيْخكَ: فحدَّهُ الحافظ ابن جُوصَى بمُضيِّ خمسين
سنةً من وفَاةِ الشَّيْخ، وابن مَنْده بثلاثين.
الخَامسُ: العُلوُّ بتقدُّم السَّماع، ويَدْخُل كثيرٌ منهُ فيمَا قبلهُ، ويَمْتازُ
بأنْ يَسْمع شَخْصان من شَيْخ، وسَمَاع أحَدهما من سِتِّين سنةً مثلاً، والآخَرُ من
أرْبَعين، وتَسَاوَى العَدَد إليهمَا، فالأوَّل أعْلَى.
وأمَّا النُّزُول فضدُّ العُلو، فهو خَمْسةُ أقْسَامٍ تعرفُ من ضِدِّها، وهو
مَفْضُول مَرْغُوبٌ عنهُ على الصَّواب وقول الجمهور، وفضَّلهُ بعضهُم على العُلُو
حكَاهُ ابن خلاَّد عن بعض أهل النَّظر، لأنَّ الإسْنَاد كُلَّما زاد عدده زاد
الاجتهاد فيه فيَزْداد الثَّواب فيه.
قال ابن دقيق العيد: لأنَّ كَثْرة المشقة ليست مَطْلوبة لنفسها، ومراعاة المعنى
المقصود من الرِّواية، وهو الصحَّة أولى
فإن تميَّز بفَائدة، فهو مُخْتار، والله أعلم.
قال وكيع لأصْحَابه: الأعمش أحب إليكُم عن أبي وائل عن عبد الله، أَمْ سُفيان عن
منصُور عن إبْرَاهيم عن عَلْقمة عن عبد الله؟ فقالوا: الأعمش عن أبي وائل أقرب.
فقال: الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ،
وسُفيان عن منصور عن إبْرَاهيم عن علقمة، فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه.
قال ابن المُبَارك: ليسَ جَوْدة الحديث قُربُ الإسْنَاد، بل جَوْدة الحديث صحَّة
الرِّجَال.
وقال السَّلفي: الأصل الأخذ عن العُلماء، فَنُزولهم أوْلَى من العُلو عن الجَهَلة،
على مذهب المُحقِّقين من النَّقلة، والنازل حينئذ هو العَالي في المعنى عند النَّظر
والتَّحقيق.
النَّوع الثَّلاثُون: المَشْهُور من الحديثِ
هو قِسْمَان: صحيحٌ وغيرهُ، ومَشْهورٌ بين أهْلِ الحديث خاصَّة، وبينهُم وبين
غَيْرهم.
ومنهُ المُتواترُ المَعْرُوف في الفِقهِ وأُصُوله، ولا يَذْكُره المُحدِّثُون، وهو
قَليلٌ لا يَكَادُ يُوجد في رِوَاياتهم، وهو ما نَقلهُ مَنْ يَحْصلُ العِلْم
بِصْدقهم ضَرُورةً عن مثلهم من أوَّله إلى آخرهِ.
وحَدِيث: «مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمَّدًا فليتبوَّأ مَقْعدهُ من النَّار».
مُتَواترٌ.
لا حديث: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيَّات ...».
النَّوع الحَادي والثَّلاثون: الغَريبُ والعَزيزُ
إذَا انفردَ عن الزُّهْري وشِبههِ مِمَّن يُجمعُ حديثه رَجلٌ بحديثٍ سُمِّي
غريبًا..
فإن انفردَ اثْنَان، أو ثلاثة سُمِّي عَزيزًا.
فإن رواهُ جَمَاعةٌ سُمي مَشْهورًا.
ويدخُل في الغَرِيب ما انفردَ راوٍ بِروَايته، أو بِزَيادة في مَتْنهِ، أو
إسْنَاده.
مثالهما: حديث رواهُ الطَّبراني في «الكبير» من رِوَاية عبد العزيز بن مُحمَّد
الدَّرَاوَرْدي، ومن رِوَاية عبَّاد بن منصُور، فرَّقهما، كلاهما عن هِشَام بن
عُروة، عن أبيه، عن عَائشة بحديث أمِّ زَرْع، ففيه غَرَابة المَتن، حيثُ جعلاه: عن
هِشَام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة.
والمحفُوظ ما رواهُ عيسى بن يُونس، عن هِشَام، عن أخيه عبد الله بن عُروة، عن عروة،
عن عائشة، هكذا أخرجه الشَّيخان.
ولا يَدْخلُ فيه أفْرادُ البُلْدان.
ويَنْقسمُ إلى:
- صَحيحٍ.
- وغَيْره؛ وهو الغَالبُ.
وإلى:غَريبٍ مَتنًا وإسْنَادًا، كمَا لو انفردَ بِمَتنهِ واحدٌ، وغَريب إسْنَادًا
كحديثٍ رَوَى متنهُ جماعةٌ من الصَّحَابة، انفردَ واحدٌ بروايتهِ عن صَحَابي آخَرَ،
وفيه يَقُولُ التِّرمذيُّ غريبٌ من هَذَا الوَجْه.
ولا يُوجدُ غريبٌ متنًا لا إسْنَادًا، إلاَّ إذا اشتهرَ الفردُ، فَرَواهُ عن
المُنْفردِ كثيرونَ، صَارَ غَرِيبًا مَشْهورًا، غَريبًا مَتْنًا لا إسْنَادًا
بالنِّسبةِ إلى أحَدِ طَرَفيهِ كَحديث: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنيَّاتِ».
النَّوع الثَّاني والثَّلاثُون: غَريبُ الحَديثِ
هو مَا وقَعَ في مَتْن الحَديثِ من لَفْظةٍ غَامضةٍ، بعيدةٍ من الفَهْم، لِقِلَّة
اسْتِعْمَالها، وهو فَنٌّ مُهمٌّ، والخَوضُ فيه صعبٌ،
فليتحرَّ خائضُهُ، وكان السَّلف
يَتَثبتونَ فيه أشدَّ تَثبُّت،
فقد روينَا عن أحمد، أنَّه سُئل عن حرف منهُ، فقال: سلُوا أصْحَاب الغَريب، فإنِّي
أكره أن أتكلَّم في قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالظن
وسُئل الأصْمَعي عن مَعْنى حديث: «الجَار أحقُّ بِسَقْبهِ». فقال: أنا لا أُفسِّر
حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العرب تَزْعُم أنَّ السَّقب اللَّزيق
وقد أكثرَ العُلماء التَّصْنيف فيهِ، قيل: أوَّل مَنْ صنَّفهُ النَّضْر بن شُمَيل،
وقيلَ أبو عُبيدة مَعْمر، وبعدهما أبو عُبيد، فاسْتَقصَى وأجَادَ، ثمَّ تتبع
ابن قُتيبة ما فاتَ أبا عُبيد، ثمَّ تتبع الخَطَّابي ما فاتهُمَا، فهذه
أُمَّهاته.
ثمَّ بعدهَا كُتبٌ فيهَا زَوَائد وفَوائد كَثِيرة، ولا يُقَلَّدُ منها إلاَّ ما كان
مُصنِّفُوها أئمةً أجِلَّة، وأجْوَد تَفْسيره ما جَاء مُفسَّرًا في رِوَاية. والله
أعلم
النَّوع الثَّالث والثَّلاثُون: المُسَلسلُ
هو ما تَتَابعَ رجَال إسْنَاده على صِفَةٍ أوْ حَالَةٍ للرُّواة تَارةً،
وللرِّوَاية تارةً أُخرى، وصِفَاتُ الرُّواة إمَّا أقْوَال، أو أفعال، وأنْوَاع
كثيرة غيرهما، كَمُسلسل التَّشْبيك باليَدِ والعَدِّ فيهَا.
وهو حديث أبي هُرَيرة: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: «خَلقَ الله
الأرْض يوم السَّبت ...» الحديث، فقد تَسَلسل لنا تشبيك كل واحد من رُواته بيد من
رواه عنه.
[والعد فيها] وهو حديث: «اللهمَّ صلِّي على مُحمَّد...» إلى آخرهِ، مُسَلسل بعد
الكلمات الخمس في يد كل راو.
وكذلك المُسلسل بالمُصَافحة، والأخذ باليد، ووضع اليد على رأس الرَّاوى.
والمُسلسل بأحوالهم القولية، كحديث مُعاذ بن جبل، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم
قال له: «يا مُعاذ إنِّي أحبكَ فَقُل في دبر كلِّ صلاة: اللهمَّ أعنِّي على ذِكْركَ
وشُكْركَ وحُسْنِ عبادتكَ». تسلسل لنا بقول كل من رواته: وأنا أحبكَ فقل.
وكاتِّفاقِ أسْمَاء الرُّواة، أو صِفَاتهم، أو نِسْبتهم، كأحَاديثَ رويناهَا كلُّ
رِجَالها دمَشْقيُّون، وكَمُسلسل الفُقَهاء، وصِفَات الرِّواية كالمُسَلسل بـ
(سمعتُ، أو بـ أخْبَرنا، أو أخبرنا فُلان والله).
وأفْضلهُ ما دلَّ على الاتِّصالِ، ومن فوائدهِ زِيادةُ الضَّبط، وقَلَّما يَسْلم
عَنْ خَللٍ في التَّسلسُل، وقد يَنْقطعُ تَسَلسلهِ في وَسَطهِ، كَمُسلسلِ أوَّل
حَديثٍ سمعتهُ
وهو حديث عبد الله بن عَمرو: «الرَّاحمُون يَرْحمهم الرَّحمن ...».
فإنَّه انْتَهَى فيه التَّسلسل إلى سُفيان بن عُيينة، وانقطع في سماع سُفيان من
عَمرو بن دينار، وانقطع في سَمَاع عَمرو من أبي قَابُوس، وفي سَمَاع أبي قابُوس من
عبد الله بن عَمرو، وفي سماع عبد الله من النَّبي صلى الله عليه وسلم
على ما هُوَ الصَّحيح فيه. والله أعلم.
قال شيخُ الإسلام: من أصلح مسلسل يُروى في الدُّنيا: المُسلسل بقراءة سُورة الصف.