صفحة جديدة 1
كتاب عمر في القضاء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير
المؤمنين إلى عبد الله بن قيس سلام عليك، أما بعد..
فإن القضاء فريضة مُحكمة وسُنة
مُتَّبعة، فافهم إذا أُدْلِي إليك، فإنه لا ينفع تَكَلُّم بحق لا نفاذ له، آسِ بين
الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حَيْفك ولا ييأس ضعيف من عدلك،
والبيّنة على مَنْ ادّعى واليمين على مَنْ أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً..
لا يمنعك قضاء قَضَيْته بالأمس
فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير
من التمادي في الباطل..
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك
مما ليس في كتاب ولا سُنة..
ثم اعرف الأشباه والأمثال فقِسِ
الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق..
واجعل لمَنْ ادّعى حقاً غائباً أو
بيّنة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية،
فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى..
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا
مجلوداً في حدٍّ أو مُجَرّباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نَسَب، فإن الله
تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان..
وإياك الغَلَق والضجر والتأذي
بالخصوم والتنكّر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يُعظِم الله به الأجر
ويُحسِن به الذُّخْر، فمَنْ صحَّت نيّته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين
الناس، ومَنْ تخلّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله..
فما ظنّك بثواب الله عز وجل في
عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام..
وإنما قلّد عمر القضاء لغيره
لقيامه بالسياسة العامة وكثرة أشغالها في الجهاد والفتوحات، وسدِّ الثغور، وحماية
البيضة..
ولم يكن ذلك مما يقوم به غيره
لعِظَم العناية به فاستخفّ القضاء في الواقعات بين الناس واستخلف فيه مَنْ يقوم به
تخفيفاً على نفسه..
وكان الذين يُنْتَخَبون لهذا العمل
العظيم ممَّنْ كثُرت صحبتهم لرسول الله صلى عليه وسلم فسطع عليهم نوره، فهُم لذلك
يقدرون على استنباط الأحكام من القرآن والسُّنة المطهرة ويتباعدون عن كل ما
يُغضب الله ورسوله من جورو رشوة قال تعالى في سورة
النساء:
﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[النساء:58]
وقال فيها: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[النساء:29]
حتى كانوا يتباعدون عن قبول
الهدايا وإجابة الدعوة إلى الولائم فكان الولاة إذا ذاك سُرُجاً يُهتدَى بهم في
الظلمات لا يريدون إلا الله بأعمالهم بعد أن قرُبت منهم الدنيا فابتعدوا عنها
لِعلمهم أنها ظلمات يوم القيامة فرضي الله عنهم أجمعين.
الفُتيا
الفُتيا في صدر الإسلام كانت
مُستمدة من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان نور النبوة إذ ذاك
ساطعاً على الأُمة، فبينهم كثير ممَّنْ روي الأحاديث وحفظها، فمِن مُقِلِّ ومِن
مُكْثِر؛ كأم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وابن عمر وابن عمرو
بن العاص وغيرهم..
ولم يكن هناك أدنى مجال للكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وقد قال: «مَنْ
كذب علي مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار»؛
فكان الدين خالياً من تلك الشائبة التي أحدثها خَلْف من بعدهم..
وكان الخلفاء يستفتون كبار الصحابة
فيما يعرض لهم من الحوادث؛ فقد استفتى عمرُ عبدَ الرحمن بن عوف فيمَنْ قتل أرنباً
في الحرم..
ولخطر الفُتيا كان الأصحاب يُحيلون
على بعضهم فيها، وكان المتصدرون لها منهم على كثرتهم سبعة عشر صحابياً، وإنما كانوا
يتباعدون عنها خوف الخطأ في الأحكام.
الحدود
قد فرض الله عقاباً لكثير من
الأعمال التي تُنتِج الفساد في الأمة، وهذا العقاب حاسم وكفيل بعدم العودة إلى
الشر؛
وهو أربعة أنواع: قتْل وجَلْد وقطْع وتعزيز..
فالأول:
- على مَنْ قَتَل نفساً بغير حق.
- أو ارتد.
- أو سعى في الأرض فساداً.
- أو فرّ من الزحف.
- أو ترك الصلاة كسلاً على رأي..
- أو زنى بعد إحصان- لأن الزنا
جناية على الأمة؛ كلها حيث يختل نظام البيوت؛ فيخرج الولد ولا أب له يُربِّيه
ويُهذبه..
فهو
والحالة هذه أشدُّ خطراً من جناية القتْل..
والجَلْد
- لمَنْ زنى قبل إحصانه مائة.
- ومَنْ قذف غيره بزنا يُجْلَد
ثمانين.
- ومَنْ شَرِب خمراً يُجْلَدُ
أربعين أو ثمانين على اختلاف الصحابة في ذلك.
- والسارق تُقْطَع يده.
- والجاني على ما سوى النفس
يُقْتَصُّ منه بمثل ما فعل، العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن
والجروح قصاص..
وجُعِل الحق في العفو للمجني
عليه أو ولّيه، وهذا حق من حقوق الأمة أخذه الحُكّام حُبّا في الأثرة بالسلطان..
أما إذا كان القتل فما دونه خطأ
فقد فَرَض الشرع لولّي المجني عليه في القتل الدية
وله فيما دون ذلك الأرْش ليكون
بمثابة تعويض عمّا فَقَد من نفس أو عضو..
وهذا العقاب أَفْيَد للمجني عليهم
وأردع للجناة..
أما التعزيز
فهو فيما سوى ذلك من الأعمال التي
أنكرها الدين:
- كالغصب.
- وترْك الصوم.
- وما شاكل ذلك.
وهذا فوّض الشرع فيه الأمر
للولاة..
ولو كان كتابنا هذا من موضوعه
التكلم في الفروع لاستقصينا أحكام الشرع في الحدود والجنايات، ولكن فيما ذكرناه من
أمهات المسائل كفاية في الدلالة على أن نظام الشرع أرقى وأسمى مما يُبتدَع من
النظامات التي لا تلبث على حال بل هي كل يوم في تغيير وتبديل ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
الجهاد
أرسل الله محمداً صلى الله عليه
وسلم بدين قويم بشيراً أو نذيراً، فقام بما حُمِّل وبلغ رسالة ربه كما أُمِر..
ولمّا كان قومه هم العرب بدأ بهم
عامة، وبقريش خاصة؛ فأرشدهم إلى الحق وأنار لهم الطريق، ودعاهم إلى دين كله مكارم
أخلاق، فتبعه قوم وجفاه آخرون، وأقاموا في وجهه يمنعونه تأدية رسالة ربه، فصبر
عليهم صبْر نبي كريم رءوف رحيم فلم يزدهم الحلم إلا غياً؛ فارتكبوا صنوفاً من البغي
والإيذاء له ولمَنْ تبعه، وازداد بهم الأمر حتى تآمروا على قتْله فأَمَره الله
بالهجرة إلى دار قوم اتبعوه وآمنوا به وهم الأنصار- سكان المدينة الذين بايعوه على
القيام دونه حتى يؤدي رسالة ربه..
فواقَع قريشاً جملة وقائع أولها:
غزوة بدر، وآخرها: غزوة الفتح؛ التي فُتِحت فيها مكة وسقطت دولة الأوثان من البيت
الحرام، فدان أكثر قريش بالدين الحنيف وازدادوا به عِزّاً على عزّهم في الجاهلية..
ولما كان أكثر العرب مُمالئاً لهم
على ما هم فيه من الطغيان أمَرَه الله بقتالهم كافة كما قاتلوا المسلمين كافةً؛
فكان له معهم جملة مواقع: آخرها وقعة هوازن بحُنين التي ذهبت بها دولة الشرك من
بلاد العرب..
ودعا- عليه الصلاة والسلام- مَنْ
يجاوره من أهل الكتاب إلى دينه الذي جاء مُصدقاً لما بين يديه..
قال تعالى في سورة آل
عمران: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ *
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾[آل
عمران3: 4]
فأَبَوا الدخول في دينه،
فعاهدهم وعاهدوه على ألا يكونوا مع عدوه، فلم يفوا بما عاهدوا، ومالئوا الأحزاب،
فنبذ إليهم على سواء، وواقعهم جملة مواقع آخرها غزوة خيبر التي انفضّ بها (جميع)
جموع اليهود وزالت دولتهم..
ولمّا كانت دعوته عليه الصلاة
والسلام عامة بحكم قوله تعالى في سورة سبأ
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ:28]
راسَل ملوك الأرض الذين كانت لهم السطوة إذ ذاك؛
- فكاتب ملك الفرس كسرى ومَنْ تحت
حمايته من ملوك العرب.
- وكاتَب قيصر ملك الروم ومَنْ تحت
رعايته.
- وكاتب النجاشي ملك الحبشة..
ليستضيء العالم بنور الإسلام،
ويتساوى الصغير والكبير أمام الحق، فلا يطمع الشريف في الحَيْف ولا ييأس الضعيف من
العدل، فتتخلص الأمم من جور ملوك كانوا يعدّون أنفسهم آلهة ورعيتهم عبيداً..
وكان مما فرضه الله على لسان نبيّه
أن مَنْ أسلم فقد أحرز ماله ودمه وصار للمسلمين أخاً لا يُكلّف إلا دفْع الزكاة
التي بها قِوام الأمة، ومَنْ أَبَى الإسلام لا يُجْبَر عليه، بل يرضى بحُكم الإسلام
ونظاماته في المعاملات، ويدفع مقابل حمايته جزءاً صغيراً حدّه الشرع..
و(بذلك) يكون في ذمة الله
ورسوله له ما للمسلمين وعليه ما عليهم؛ فيجب على المسلمين أن يُدافعوا عنه كما
يدافعون عن أنفسهم وأموالهم وأبنائهم، وله الحرية التامة في العمل بمقتضى دينه..
أمّا مَنْ أَبَى الأمرين فيُقاتَل
لأن الإسلام دين قويم جاء مُصدقاً بجميع الكتب الْمُنَزَّلة قبله، واحتوى على مكارم
أخلاق عليها مدار السعادة في الدنيا..
فآبي الدخول فيه أو الانقياد
لأحكامه الدنيوية مع البقاء على دينه في عبادته لا عُذر له..
ولمّا تُوفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان من واجبات الخليفة بعده تميم ما أمر به لأنه خليفته في حراسة الدين
وسياسة الدنيا، فقام الخلفاء الراشدون بعده بذلك خيْر قِيام غير هيّابين ولا
وَجِلين، فجرّدوا الجيوش لحرب الدولتين العظيمتين المجاورتين لبلاد العرب- دولة
الفرس ودولة الروم- بعد أن كتبوا لهم الكتب يدعونهم للدخول في الإسلام أو الانقياد
لأحكامه مع إعطاء الجزاء..
وكانت قيادة الجيوش من وظائف
الخليفة تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج بنفسه في الغزوات، ولكن
لمّا كان للخلفاء مقاصد كثيرة في بلدان متعددة يريدون فتْحها في آن واحد لم يكن بد
من أن يستعينوا بغيرهم في إِمْرة الجيوش ممَّنْ لا يقل عنهم في الشجاعة وتدبير
الحرب؛ فانتخبوا من إخوانهم من الصحابة مَنْ يستحق أن يُسنَد له منصب عظيم كهذا،
ولم يكن يُنظَر فيه لغنى أو شرف قبيلة أو قِدَم صُحبة أو كِبَر سن ..
فقد ولّى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عمرو بن العاص إِمْرة جيش فيه أبو بكر وعمر..
وولّى أسامة بن زيد إِمْرة جيش
آخرهما فيه..
وإنما كان ينظر في ذلك إلى العلم
بالحرب والقُدرة على تدبيرها وإعداد كل أمر لما يناسبه..
وكان الخلفاء يأمرون أمراء الجيوش
بما كان يأمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبدءوا أُمة بقتال حتى يعرضوا
عليهم الإسلام، فإن أَبَوه فالجزية، فإن أَبَوهما فالقتال..
وكانوا يوصونهم بما أوصى به أبو
بكر أسامة حين سَيَّره بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الإفساد في
الأرض، وعدم التعدي على النساء والصبيان والشيوخ والرهبان..
وكانوا
يقسمون الجيش إلى خمسة أقسام:
- مقدمة.
- وساقة.
- ومجنبتان.
- وقلب.
ولكل قسم أمير يصدر عن أمر قائد
الجيش.
وكانوا يقسمون الجيش بعد ذلك
كراديس (صفوفاً) كل كُردوس ألف رجل، وعلى كل كُردوس رجل من الشجعان يكون فيهم
بمنزلة الأمير..
ثم يقسمون الكُردوس إلى عشرات، على
كل عشرة رئيس يسمى عَرِيفاً..
وكانوا يقاتلون
بالزحف عملاً بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾[الصف:4]..
وقال عليه
الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضاً»..
وقتال الزحف أشد
الأعداء من قتال الكر والفر الذي كان متبعاً عند العرب..