HTML Editor - Full Version
المقدمة
الحمد لله، وبعد:
فأقيد معالم هذه الحلية المباركة عام 1408 هـ، والمسلمون – ولله الحمد – يعايشون يقظة علمية تتهلل لها سبحات الوجوه، ولا تزال تنشط متقدمة إلى الترقي والنضوج في أفئدة شباب الأمة، مدها ودمها المجدد لحياتها، إذ نرى الكتائب الشبابية تترى يتقلبون في أعطاف العلم مثقلين بحمله يعلون منه وينهلون، فلديهم من الطموح، والجامعية، والاطلاع المدهش والغوص على مكنونات المسائل، ما يفرح به المسلمون نصراً، فسبحان من يحيى ويميت قلوباً.
لكن، لا بد لهذه النواة المباركة من السقي والتعهد في مساراتها كافة، نشراً للضمانات التي تكف عنها العثار والتعصب في مثاني الطلب والعمل من تموجات فكرية، وعقدية، وسلوكية، وطائفية، وحزبية...
وقد جعلت طوع أيديهم رسالة في التعاليم تكشف المندسين بينهم خشية أن يردوهم، ويضيعوا عليهم أمرهم، ويبعثروا مسيرتهم في الطلب، فيستلوهم وهم لا يشعرون.
واليوم أخوك يشد عضدك، ويأخذ بيدك، فاجعل طوع بنانك رسالة تحمل " الصفة الكاشفة" لحليتك، فها أنا ذا أجعل سن القلم على القرطاس، فاتل ما أرقم لك أنعم الله بك عينا:
لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلي بمحاسن الأدب، ومكارم الأخلاق، والهدى الحسن، والسمت الصالح: سمة أهل الإسلام، وأن العلم - وهو أثمن درة في تاج الشرع المطهر - لا يصل إليه إلا المتحلي بآدابه، المتخلي عن آفاته، ولهذا عناها العلماء بالبحث والتنبيه، وأفردوها بالتأليف، إما على وجه العموم لكافة العلوم، أو على وجه الخصوص، كآداب حملة القرآن الكريم، وآداب المحدث، وآداب المفتي، وآداب القاضي، وآداب المحتسب، وهكذا...
والشأن هنا في الآداب العامة لمن يسلك طريق التعلم الشرعي.
وقد كان العلماء السابقون يلقنون الطلاب في حلق العلم آداب الطلب، وأدركت خبر آخر العقد في ذلك في بعض حلقات العلم في المسجد النبوي الشريف، إذ كان بعض المدرسين فيه، يدرس طلابه كتاب الزرنوجي (م سنة 593 هـ) رحمه الله تعالى، المسمى: " تعليم المتعلم طريق التعلم".
فعسى أن يصل أهل العلم هذا الحبل الوثيق الهادي لأقوم طريق، فيدرج تدريس هذه المادة في فواتح دروس المساجد، وفي مواد الدراسة النظامية، وأرجو أن يكون هذا التقييد فاتحة خير في التنبيه على إحياء هذه المادة التي تهذب الطالب، وتسلك به الجادة في آداب الطلب وحمل العلم، وأدبه مع نفسه، ومع مدرسه، ودرسه، وزميله، وكتابه، وثمرة علمه، وهكذا في مراحل حياته.
فإليك حلية تحوي مجموعة آداب، نواقضها مجموعة آفات، فإذا فات أدب منها، اقترف المفرط آفة من آفاته، فمقل ومستكثر، وكما أن هذه الآداب درجات صاعدة إلى السنة فالوجوب، فنواقضها دركات هابطة إلى الكراهة فالتحريم.
ومنها ما يشمل عموم الخلق من كل مكلف، ومنها ما يختص به طالب العلم، ومنها ما يدرك بضرورة الشرع، ومنها ما يعرف بالطبع، ويدل عليه عموم الشرع، من الحمل على محاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، ولم أعن الاستيفاء، لكن سياقتها تجرى على سبيل ضرب المثال، قاصداً الدلالة على المهمات، فإذا وافقت نفساً صالحة لها، تناولت هذا القليل فكثرته، وهذا المجمل ففصلته، ومن أخذ بها، انتفع ونفع، وهى بدورها مأخوذة من أأدب من بارك الله في علمهم، وصاروا أئمة يهتدى بهم، جمعنا الله بهم في جنته، آمين.
الفصل الأول
آداب الطالب في نفسه
- العلم عبادة :
أصل الأصول في هذه "الحلية" بل ولكل أمر مطلوب علمك بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء : ”العلم صلاة السر، وعبادة القلب”.
وعليه، فإن شرط العبادة إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، لقوله:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) الآية.
وفي الحديث الفرد المشهور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات ) الحديث.
فإن فقد العلم إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، ولا شئ يحطم العلم مثل: الرياء؛ رياء شرك، أو رياء إخلاص ، ومثل التسميع؛ بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت...
وعليه؛ فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفاً منها في المبحث الأول من كتاب ”التعالم”، ويزاد عليه نهى العلماء عن ”الطبوليات”، وهى المسائل التي يراد بها الشهرة.
وقد قيل:”زلة العالم مضروب لها الطبل”.
وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال:
“كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة، سلبته”.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون – مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.
ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى قوله: "ما عالجت شيئاً أشد على من نيتي”.
وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده ”يا أبي! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بنى ! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وفقك الله لرشدك آمين.