صفحة جديدة 15
ومن الأحكام المتعلقة بالعدة
مسألة خطبة المعتدة فالمعتدة من وفاة والمعتدة البائن بطلاق يحر التصريح بخطبتهما؛
كقوله: أريد أن أتزوجك ونحوه؛ دون التعريض، كأن يقول لها: إني في مثلك لراغب؛ لقوله
تعالى:
﴿وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾،
ويباح للرجل أن يخطب من أبانها دون الثلاث ومن طلقها طلاقا رجعيا تصريحا وتعريضا؛
لأنه يباح له أن يتزوج من أبانها دون الثلاث، وأن يراجع مطلقته الرجعية ما دامت في
عدتها.
وأما زوجة المفقود - وهو من
انقطع خبره، فلم تعلم حياته ولا موته -؛ فتنتظر زوجته قدومه أو تبين خبره في مدة
يضربها القاضي تكون كافية للاحتياط في شأنه، وتبقى في عصمته في تلك المدة؛ لأن
الأصل حياته، فإذا تمت مدة الانتظار المضروبة؛ حكم بوفاته، واعتدت زوجته عدة الوفاة
أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد حكم الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
قال الإمام ابن القيم: حكم
الخلفاء في امرأة المفقود كما ثبت عن عمر، وقال أحمد: ما في نفسي شيء منه، خمسة من
الصحابة أمروا أن تتربص.
قال ابن القيم: قول عمر هو أصح
الأقوال وأحراها بالقياس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو الصواب انتهى.
فإذا انتهت عدتها؛ حلت للأزواج،
ولا تفتقر إلى طلاق ولي زوجها بعد اعتدادها للوفاة، فإن تزوجت، وقدم زوجها الأول؛
فالصحيح أنه يخير بين استرجاعها وبين إمضاء تزوجها من الثاني، ويأخذ صداقه، سواء
كان قدومه بعد دخول الزوج الثاني أو قبله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة، وهو أنها تتربص أربع
سنين، ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرا وباطنا،
ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها؛ خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل
الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد، ثم قال: والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو
أعدل الأقوال انتهى.
باب في الاستبراء
الاستبراء هو تربص يقصد منه
العلم ببراءة رحم ملك يمين، مأخوذ من البراءة، وهي التمييز والقطع. فمن ملك أمة
يوطأ مثلها ببيع أو هبة أو سبي أو غير ذلك؛ حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر، فلا يسقي ماءه زرع غيره» رواه أحمد والترمذي
وأبو داود..
وفي حديث آخر رواه أبو داود: «لا
توطأ حامل حتى تضع»..
واستبراء الأمة الحامل ينتهي
بوضع الحمل؛
لعموم قوله تعالى:
﴿وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾..
وغير الحامل إن كانت تحيض،
فاستبراؤها بحيضة، لقوله صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس: «لا
توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة»
رواه أحمد وأبو داود؛ فدل هذا الحديث على وجوب استبراء الأمة المسبية وغيرها قبل
وطئها، ودل على بيان ما تستبرأ به الحامل والحائض من المسبيات.
وأما الأمة الآيسة من الحيض
والأمة الصغيرة؛ فتستبرآن بمضي شهر؛ لقيام الشهر مقام الحيضة في العدة.
والحكمة في استبراء الأمة قبل
وطئها يبينها قوله صلى الله عليه وسلم:
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يسقي ماءه زرع غيره» فبين أن الغرض من الاستبراء تجنب اختلاط المياه واشتباه الأنساب.
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في أحكام الرضاع
قال تعالى في سياق بيان
المحرمات من النساء:
﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾..
وفي الصحيحين عن النبي صلى
الله عليه وسلم:
«يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب»..
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم
من الرضاع ما يحرم من الولادة»
رواه الجماعة.
والرضاع لغة: مص اللبن من الثدي
أو شربه، وشرعا: هو مص من دون الحولين لبنا ثاب عن حمل أو ضربه أو نحوه.
والرضاع حكمه حكم النسب في النكاح والخلوة والمحرمية وجواز النظر على ما يأتي
تفصيله.
ولكن لا تثبت له هذه الأحكام
إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون خمس رضعات فأكثر لحديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت:
«أنزل في القرآن: عشر رضعات
معلومات يحرمن، فنسخ من ذلك خمس رضعات، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك» رواه مسلم، وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، وهو مبين لما أجمل في
الآية والأحاديث في موضوع الرضاع.
الشرط الثاني: أن تكون خمس الرضعات في الحولين؛ لقوله تعالى:
﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ﴾..
فدلت هذه الآية الكريمة على أن
الرضاع المعتبر ما كان في الحولين، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا
يحرمن الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام» قال الترمذي: حديث حسن صحيح،
ومعناه أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما وصل إلى الأمعاء ووسعها؛ فلا يحرم القليل الذي
لم ينفذ إليها ويوسعها، ولا يحرم إلا ما كان قبل الفطام؛ أي: ما كان في زمن الصغر،
وقام مقام الغذاء؛ فالذي يثبت الحرمة حيث يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعه وينبت
لحمه، فيكون ذلك جزءا منه.
وحد الرضعة أن يمتص الثدي ثم
يقطع امتصاصه لتنفس أو انتقال من ثدي لآخر أو لغير ذلك؛ فيحتسب له بذلك رضعة، فإن
عاد؛ فرضعتان... وهكذا؛ ولو في مجلس واحد، وذلك لأن الشارع اعتبر عدد الرضعات ولم
يحدد الرضعة، فيرجع في تحديدها إلى العرف.
ولو وصل اللبن إلى جوف الطفل
بغير الرضاع فحكمه حكم الرضاع؛ كما لو قطر في فمه أو أنفه، أو شربه من إناء ونحوه؛
أخذ ذلك حكم الرضاع؛ لأنه يحصل به ما يحصل بالرضاع من التغذية؛ بشرط أن يحصل من ذلك
خمس مرات.
وأما ما ينشره الرضاع من الحرمة
فمتى أرضعت امرأة طفلا دون الحولين خمس رضعات فأكثر؛ صار المرتضع ولدها في تحريم
نكاحها عليه وفي إباحة نظره إليها وخلوته بها، ويكون محرما لها؛
لقوله تعالى:
﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾..
ولا يكون ولدا لها في بقية
الأحكام؛ فلا تجب نفقتها عليه، ولا توارث بينهما، ولا يعقل عنها، ولا يكون وليا
لها؛ لأن النسب أقوى من الرضاع؛ فلا يساويه إلا فيما ورد فيه النص، وهو التحريم،
وما يتفرع عليه من المحرمية والخلوة.
ويصير المرتضع ولدا لمن ينسب
لبنها إليه بسبب حملها منه، أو بسبب وطئه لها بنكاح أو شبهه؛ للحوق نسب الحمل به في
تلك الأحوال، والرضاع فرع عنه، فيكون المرتضع ولدا له في الأحكام المذكورة في حق
المرضعة فقط، وهي تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمحرمية دون بقية الأحكام.
وتكون محارم من نسب إليه اللبن
كآبائه وأولاده وأمهاته وأجداده وجداته وإخوته وأخواته وأولادهم وأعمامه وعماته
وأخواله وخالاته يكونون محارم للمرتضع، وتكون محارم المرضعة كآبائها وأولادها
وأمهاتها وأخواتها وأعمامها ونحوهم محارم للمرتضع.
وكما تثبت الحرمة على المرتضع
تنتشر كذلك على فروعه من أولاده وأولاد أولاده دون أصوله وحواشيه؛ فلا تنتشر الحرمة
على من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، كما لا تنتشر
إلى من هو في درجته من حواشيه وهم إخوانه وأخواته.
ومن رضع من لبن امرأة موطوءة
بعقد باطل أو بزنا صار ولدا للمرضعة فقط؛ لأنه لما لم تثبت الأبوة من النسب، لم يثب
من الرضاع، وهو فرعها.
ولبن البهيمة لا يحرم، فلو
ارتضع طفلان من بهيمة لم ينشر الحرمة بينهما.
واختلف في لبن المرأة إذا در
لها لبن بدون حمل وبدون وطء تقدم، ورضع منه طفل فقيل: لا ينشر الحرمة؛ لأنه ليس
بلبن حقيقة، بل رطوبة متولدة، ولأن اللبن ما أنشز العظم وأنبت اللحم، وهذا ليس
كذلك، والقول الثاني: أنه ينشر الحرمة، واختاره الموفق وغيره.
ويثبت الرضاع بشهادة امرأة
مرضية في دينها.
قال شيخ الإسلام: إذا كانت
معروفة بالصدق، وذكرت أنها أرضعت طفلا خمس رضعات؛ قبل على الصحيح، ويثبت حكم
الرضاع انتهى.
وإن شك في وجود الرضاع، أو شك
في كماله خمس رضعات، وليس هناك بينة فلا تحريم؛ لأن الأصل عدم الرضاع، والله أعلم.