صفحة جديدة 17
أبواب إحياء الموات وتملك المباحات
باب في أحكام إحياء الموات
بسم الله الرحمن الرحيم
الموات - بفتح الميم والواو -:
هو ما لا روح فيه، والمراد به هنا الأرض التي لا مالك لها.
ويعرفه الفقهاء - رحمهم الله -
بأنه الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم.
فيخرج بهذا التعريف شيئان:
الأول: ما جرى عليه ملك معصوم
من مسلم وكافر بشراء أو عطية أو غيرها.
الثاني: ما تعلقت به مصلحة ملك
المعصوم؛ كالطرق، والأفنية، ومسيل المياه، أو تعلقت به مصالح العامر من البلد؛ كدفن
الموتى وموضع القمامة والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والمحتطبات والمراعي؛ فكل ذلك
لا يملك بالإحياء.
فإذا خلت الأرض عن ملك معصوم
واختصاصه، وأحياها شخص؛ ملكها، لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: «من
أحيا أرضا ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي
وصححه، وورد بمعناه أحاديث، وبعضها في صحيح البخاري .
وعامة فقهاء الأمصار على أن
الموات يملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه؛ إلا موات الحرم وعرفات؛ فلا يملك
بالإحياء؛ لما فيه من التضييق في أداء المناسك، واستيلائه على محل الناس فيه سواء.
ويحصل إحياء الموات بأمور
الأول: إذا أحاطه بحائط منيع مما جرت العادة به؛ فقد أحياه، لقوله صلى
الله عليه وسلم: «من
أحاط حائطا على أرض، فهي له» رواه أحمد وأبو داود عن جابر، وصححه ابن الجارود، وعن سمرة مثله،
وهو يدل على أن التحويط على الأرض مما يستحق به ملكها، والمقدار المعتبر ما يسمى
حائطا في اللغة، أما لو أدار حول الموت أحجارا ونحوها كتراب أو جدار صغير لا يمنع
ما وراءه أو حفر حولها خندقا؛ فإنه لا يملكه بذلك، لكن يكون أحق بإحيائه من غيره،
ولا يجوز له بيعه إلا بإحيائه.
الثاني: إذا حفر في الأرض الموات بئرا، فوصل إلى مائها؛ فقد أحياها، فإن
حفر البئر ولم يصل إلى الماء؛ لم يملكها بذلك، وإنما يكون أحق بإحيائها من غيره؛
لأنه شرع في إحيائها.
الثالث: إذا أوصل إلى الأرض الموات ماء أجراه من عين أو نهر، فقد أحياها
بذلك؛ لأن نفع الماء للأرض أكثر من الحائط.
الرابع: إذا حبس عن الأرض الموات الماء الذي كان يغمرها ولا تصلح معه
للزراعة، فحبسه عنها حتى أصبحت صالحة لذلك، فقد أحياها؛ لأن نفع الأرض بذلك أكثر من
نفع الحائط الذي ورد في الدليل أنه يملكها بإقامته عليها. ومن العلماء من يرى أن
إحياء الموات لا يقف عند هذه الأمور، بل يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس إحياء؛
فإنه يملك به الأرض الموات، واختار ذلك جمع من أئمة الحنابلة وغيرهم؛ لأن الشرع ورد
بتعليق الملك عليه ولم يبينه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياء في العرف.
ولإمام المسلمين إقطاع الأرض
الموات لمن يحييها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق، وأقطع
وائل بن حجر أرضا بحضرموت، وأقطع عمر وعثمان وجمعا من الصحابة لكن لا يملكه بمجرد
الإقطاع حتى يحييه، بل يكون أحق به من غيره، فإن أحياه؛ ملكه، وإن عجز عن إحيائه،
فللإمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه استرجع الإقطاعات من الذين عجزوا عن إحيائها.
ومن سبق إلى مباح غير الأرض
الموات كالصيد، والحطب، فهو أحق به.
وإذا كان يمر بأملاك الناس ماء
مباح (أي: غير مملوك) كماء النهر وماء الوادي، فللأعلى أن يسقي منه ويحبس الماء إلى
الكعب ثم يرسله للأسفل ممن يليه، ويفعل الذي يليه كذلك ثم يرسله لمن بعده... وهكذا؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«اسق
يا زبير! ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر» متفق عليه.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري، قال: نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم
احبس الماء حتى يصل إلى الجدر» فكان ذلك إلى الكعبين،
أي: قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق
الأول فالأول.
وروى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب، أنه صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور
(واد بالمدينة مشهور): «أن
يمسك الأعلى حتى يبلغ السيل الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل»
أما إن كان الماء مملوكا؛ فإنه يقسم بين الملاك بقدر أملاكهم، ويتصرف كل واحد في
حصته بما شاء.
ولإمام المسلمين أن يحمي مرعى
لمواشي بيت مال المسلمين، كخيل الجهاد، وإبل الصدقة؛ ما لم يضرهم بالتضييق عليهم؛
لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه
وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين» فيجوز للإمام أن يحمي
العشب في أرض الموات لإبل الصدقة وخيل المجاهدين ونعم الجزية والضوال إذا احتاج إلى
ذلك ولم يضيق على المسلمين.
باب في أحكام الجعالة
وتسمى الجعل والجعيلة أيضا، وهي
ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله؛ كأن يقول: من فعل كذا؛ فله كذا من المال، بأن يجعل
شيئا معلوما من المال لمن يعمل له عملا معلوما، كبناء حائط.
ودليل جواز ذلك قوله تعالى:﴿وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾
أي: لمن دل على سارق صواع الملك حمل بعير، وهذا جعل، فدلت الآية على جواز الجعالة.
ودليلها من السنة حديث اللديغ،
وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد، أنهم نزلوا على حي من أحياء العرب،
فاستضافوهم، فأبوا، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، فأتوهم، فقالوا: هل عند
أحد منكم من شيء؛ قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم
تضيفونا؛ فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق
ينفث عليه ويقرأ:﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فكأنما
نشط من عقال، فأوفوهم جعلهم، وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له،
فقال: «أصبتم،
اقتسموا واجعلوا لي معكم سهما».
فمن عمل العمل الذي جعلت عليه
الجعالة بعد علمه بها استحق الجعل؛ لأن العقد استقر بتمام العمل، وإن قام بالعمل
جماعة؛ اقتسموا الجعل الذي عليه بالسوية؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به
العوض فاشتركوا في العوض، فإن عمل العمل قبل علمه بما جعل عليه، لم يستحق شيئا؛
لأنه عمل غير مأذون فيه، فلم يستحق به عوضا، وإن علم بالجعل في أثناء العمل؛ أخذ من
الجعل ما عمله بعد العلم.
والجعالة عقد جائز لكل من
الطرفين فسخها فإن كان الفسخ من العامل، لم يستحق شيئا من الجعل؛ لأنه أسقط حق
نفسه، وإن كان الفسخ من الجاعل، وكان قبل الشروع في العمل، فللعامل أجرة مثل عمله؛
لأنه عمله بعوض لم يسلم له.
والجعالة تخالف الإجارة في
مسائل منها: أن الجعالة لا يشترط لصحتها
العلم بالعمل المجاعل عليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها يشترط فيها أن يكون العمل المؤاجر
عليه معلوما.
ومنها: أن الجعالة لا يشترط فيها معرفة مدة العمل، بخلاف الإجارة، فإنها
يشترط فيها أن تكون مدة العمل معلومة.
ومنها:
أن الجعالة يجوز فيها الجمع بين العمل والمدة، كأن يقول: من خاط هذا الثوب في يوم؛
فله كذا، فإن خاطه في اليوم، استحق الجعل، وإلا؛ فلا؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها لا يصح
فيها الجمع بين العمل والمدة.
ومنها: أن العامل في الجعالة لم يلتزم العمل؛ بخلاف الإجارة، فإن العامل
فيها قد التزم بالعمل.
ومنها: أن الجعالة لا يشترط فيها تعيين العامل؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها
يشترط فيها ذلك.
ومنها: أن الجعالة عقد جائز لكل من الطرفين فسخها بدون إذن الآخر؛ بخلاف
الإجارة؛ فإنها عقد لازم، لا يجوز لأحد الطرفين فسخها؛ إلا برضى الآخر.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أن
من عمل لغيره عملا بعير جعل ولا إذن من صاحب العمل لم يستحق شيئا؛ لأنه بذل منفعة
من غير عوض، فلم يستحقه،
ولأنه لا يلزم الإنسان
شيء لم يلتزمه، إلا أنه يستثنى من ذلك شيئان:
الأول: إذا كان العامل قد أعد نفسه للعمل بالأجرة كالدلال والحمال
ونحوهما؛ فإنه إذا عمل عملا بإذن يستحق الأجرة، لدلالة العرف على ذلك، ومن لم يعد
نفسه للعمل، لم يستحق شيئا، ولو أذن له؛ إلا بشرط
الثاني: من قام بتخليص متاع غيره من هلكة؛ كإخراجه من البحر أو الحرق أو
وجده في مهلكة يذهب لو تركه، فله أجرة المثل، وإن لم يأذن له ربه؛ لأنه يخشى هلاكه
وتلفه على صاحبه؛ ولأن في دفع الأجرة ترغيبا في مثل هذا العمل، وهو إنقاذ الأموال
من الهلكة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من استنقذ مال غيره من الهلكة
ورده؛ استحق أجرة المثل، ولو بغير شرط، في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره.
وقال العلامة ابن القيم رحمه
الله: فمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى غيره أو فعله
حفظا لمال المالك وإحرازا له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص
عليه أحمد في عدة مواضع انتهى.