صفحة جديدة 11
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالمَغَازِي: «أَهْلُ المَدِينَةِ»، ثُمَّ «أَهْلُ
الشَّامِ»، ثُمَّ «أَهْلُ العِرَاقِ».
فَـ
«أَهْلُ المَدِينَةَ» أَعْلَمُ بِهَا؛ لأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَ«أَهْلُ
الشَّامِ» كَانُوا أَهْل غَزْوٍ وَجِهَادٍ، فَكَانَ لَهُمْ مِنَ العِلْمِ
بِالجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ
كِتَابَ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ، وَجَعَلُوا
الأَوْزَاعِيَّ أَعْلَمَ بِهَذَا البَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ
الأَمْصَارِ.
وَأَمَّا التَّفْسِيرُ، فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ «أَهْلُ مَكَّةَ»؛
لأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابنِ عَبَّاسٍ؛ كَـ: مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
عَبَّاسٍ؛ كَـ: طَاوُوسٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
وَأَمْثَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ «أَهْلُ الكُوفَةِ» مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ
ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَعُلَمَاءُ «أَهْلِ المَدِينَةِ» فِي «التَّفْسِيرِ»: مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ، وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضاً ابْنُهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ.
وَ«المَرَاسِيلُ» إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ المُوَاطَأَةِ
قَصْداً، أَوْ اتفاقاً بِغَيْرِ قَصْدٍ، كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعاً؛ فَإِنَّ
النَّقْلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقاً مُطَابِقاً لِلْخَبَرِ، وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ كَذِباً تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الكَذِبَ، أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ.
فَمَتَى سَلِمَ مِنَ الكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقاً بِلَا رَيْبٍ.
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ، أَوْ جِهَاتٍ، وَقَدْ عُلِمَ
أَنَّ المُخْبِرِينَ لَمْ يَتَوَاطَؤُوا عَلَى اخْتِلَاقِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلُ
ذَلِكَ لَا تَقَعُ المُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقاً بِغير قَصْدٍ؛ عُلِمَ أَنَّهُ
صَحِيحٌ، مِثْلَ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلُ مَا
فِيهَا مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ
أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئِ الأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الأَوَّلُ مِنْ
تَفَاصِيلِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ؛ فَيُعْلَمُ قَطْعاً أَنَّ تِلْكَ
الوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الجُمْلَةِ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَبَهَا
عَمْداً أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي العَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا
بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ العَادَةُ اتِّفَاقَ الاثْنَيْنِ
عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ
يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتاً وَيَنْظِمَ الآخَرُ مِثْلَهُ، أَوْ يَكْذِبَ
كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الآخَرُ مِثْلَهَا، أَمَّا إِذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً
ذَاتَ فُنُونٍ، عَلَى قَافِيةٍ وَرَوِيٍّ، فَلَمْ تَجْرِ العَادَةُ بِأَنَّ
غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظاً وَمَعْنًى، مَعَ الطُّولِ المُفْرِطِ، بَلْ
يُعْلَمُ بِالعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثاً
طَويلاً فِيهِ فُنُونٌ، وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
وَاطَأَه عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ الحَدِيثُ صِدْقاً.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ
المُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ المَنْقُولَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
أَحَدُهَا كَافِياً؛ إِمَّا لإِرْسَالِهِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ.
لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا
تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ، بَلْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا
مِثْلُ تِلْكَ الأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ «غَزْوَةُ بَدْرِ»
بِالتَّوَاتُرِ، وَأَنَّهَا قَبْلَ «أُحُدٍ»، بَلْ يُعْلَمُ قَطْعاً أَنَّ:
حَمْزَةَ، وَعَلِيّاً، وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إِلَى: عُتَبَةَ، وَشَيْبَةَ،
وَالوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيّاً قَتَلَ الوَلِيدَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ
قِرْنَهُ، ثُمَّ يُشَكُّ فِي قِرْنِهِ هَلْ هُوَ عُتْبَةُ أَوْ شَيْبَةُ؟
وَهَذَا الأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ، فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ
بِكَثِيرٍ مِنَ المَنْقُولَاتِ فِي: «الحَدِيثِ»، وَ«التَّفْسِيرِ» وَ«المَغَازِي»،
وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا إِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ، مَعَ العِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا
لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الآخَرِ؛ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إِذَا عُلِمَ
أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى
أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالغَلَطُ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ، كَـ: ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ؛ عَلِمَ يَقِيناً أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ
لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
؛ فَضْلاً عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ. كَمَا يُعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ
جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ
يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ «التَّابِعُونَ» بِالمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالشَّامِ، وَالبَصْرَةِ،
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ: أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، وَالأَعْرَجِ،
وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَأَمْثَالَهُمْ؛ عَلِمَ
قَطْعاً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ فِي الحَدِيثِ؛
فَضْلاً عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ؛ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَوْ القَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أَوْ عَبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ،
أَوْ عَلْقَمَةَ، أَوْ الأَسْوَدِ، أَوْ نَحْوِهِمْ.
وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الوَاحِدِ مِنَ الغَلَطِ، فَإِنَّ الغَلَطَ
وَالنِّسْيَانَ كَثِيراً مَا يَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ. وَمِنَ الحُفَّاظِ مَنْ قَدْ
عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدّاً؛ كَمَا عَرَفُوا حَالَ: الشَّعْبِيِّ،
وَالزُّهْرِيِّ، وَعُرْوَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ؛ لَا
سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ؛ فَإِنَّهُ
قَدْ يَقُولُ القَائِلُ: إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ
غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ، وَسَعَةِ حِفْظِهِ.
وَالمَقْصُودُ: أَنَّ الحَدِيثُ الطَّوِيلَ إِذَا رُوِيَ مَثَلاً مِنْ وَجْهَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ؛ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطاً،
كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِباً؛ فَإِنَّ الغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ
طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا، فَإِذَا رَوَى هَذَا
قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً، وَرَوَاهَا الآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الأَوَّلُ
مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ، امْتَنَعَ الغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا امْتَنَعَ
الكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
وَلِهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي
القِصَّةِ؛ مِثْلُ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم البَعِيرَ
مِنْ جَابِرٍ، فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعاً أَنَّ الحَدِيثَ
صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَ
ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» -فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي «البُخَارِيِّ»،
وَ«مُسْلِمٍ» مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ؛
لأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا [النَّحْوِ]-؛ وَلأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْل
العِلْمِ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ.
فَلَوْ كَانَ الحَدِيثُ كَذِباً فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَالأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ
لَهُ، قَابِلَةٌ لَهُ؛ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي
نَفْسِ الأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ عَلَى الخَطَأِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ،
وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الخَطَأَ أَوِ الكَذِبَ عَلَى
الخَبَرِ، فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الإِجْمَاعَ عَلَى العِلْمِ
الَّذِي ثَبَتَ «بِظَاهِرٍ» أَوْ «قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ» أَنْ يَكُونَ الحَقُّ فِي
البَاطِنِ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ. فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الحُكْمِ
جَزَمْنَا بِأَنَّ الحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِناً وَظَاهِراً.