HTML Editor - Full Version
ولا ريب أنّ المشركين الذين كذّبوا الرّسل يتردّدون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين إمّا أن يبتدعوا وإمّا أن يحتجوا بالقدر وإمّا أن يجمعوا بين الأمرين كما قال تعالى عن المشركين {واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} وكما قال تعالى عنهم {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء}.
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام والعبادة التى لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلاّ من نشاء بزعمهم وأنعام حُرِّمَت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليهاافترآء عليه} الى آخر السورة وكذلك فى سورة الاعراف فى قوله {يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما اخرج أبويكم من الجنة} الى قوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} الى قوله {قل أمر ربّي بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد} الى قوله {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التى اخرج لعبادة والطيبات من الرزق} الى قوله {قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون} .
وهؤلاء قد يسمّون ما أحدثوه من البدع حقيقة كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بامر الشارع ونهيه ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا بل عمدتهم اتباع آرائهم واهوائهم وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة وامرهم باتباعها دون اتباع امر الله ورسوله نظير بدع اهل الكلام من الجهمية وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه من الاقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات ثم الكتاب والسنة اما ان يحرفوه عن مواضعه واما ان يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه بل يقولون نفوض معناه الى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله واذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق اولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الاهواءالتى يتبعها أعداء الله لا أولياءه.
وأصل ضلال من ضلّ هو بتقديم قياسه على النصّ المنزّل من عند الله واختياره الهوى على اتباع امر الله فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته فأهل الايمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله فى الحديث الصحيح {ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله ومن كان يكره ان يرجع فى الكفر بعد إذ انقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النّار} وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح {ذاق طعم الايمان من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا}.
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه قيل لسفيان بن عيينة ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال أنسيت قوله تعالى {واشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم} أو نحو هذا من الكلام فعُبَّادِ الاصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبّونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وقال {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهوآءهم ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال {إن يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} ولهذا يميل هؤلاء الى سماع الشعر والأصوات التى تهيّج المحبة المطلقة التى لا تختص بأهل الايمان بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الاوثان ومحب الصلبان ومحب الاوطان ومحب الاخوان ومحب المردان ومحب النسوان وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا الى قوله والله ولى المتقين بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله قال تعالى { ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وهم فى ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله وتارة يحتجون بالقدر الكونى على الشريعة كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم.
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا وهم مستمسكون بالدين فى أداء الفرائض المشهوره واجتناب المحرمات المشهوره لكن يغلطون فى ترك ما امروا به من الاسباب التى هي عبادة ظانين ان العارف اذا شهد القدر اعرض عن ذلك مثل من يجعل التوكل منهم او الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة بناء على ان من شهد القدر علم ان ما قدر سيكون فلا حاجة الى ذلك وهذا غلط عظيم فان الله قدر الاشياء باسبابها كما قدر السعادة والشقاوة باسبابها كما قال النبى صلى الله عله وسلم ان الله خلق للجنة اهلا خلقها لهم وهم فى اصلاب آبائهم وبعمل اهل الجنة يعملون وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بان الله كتب المقادير فقالوا يا رسول الله افلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فسييسر لعمل اهل السعادة واما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة فما امر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما فى قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وفى قوله قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب وقول شعيب عليه السلام {عليه توكلت وإليه أُنيب}.
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الاعمال دون الواجبات فتنقص بقدر ذلك.
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة او استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة ونحو ذلك فيشتغل احدهم عما امر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.
فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السّلوك والتوجّه وإنّما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت كما قال الزُّهري كان من مضى من سلفنا يقولون الاعتصام بالّسنة نجاة وذلك أنّ السُّنة كما قال مالك رحمه الله مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.